الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنَّ له الأجَرَ تامَّاً إذا لم يَغْنَم، أو ثُلُث الأجرِ إنْ غَنِم. (1)
كما أنَّ في الحديث الأول إشكالاً آخر، حيث يُوهِمُ ظاهره مُعَارَضَة الآية الكريمة؛ إذ في الآية التَّسْويَة بين من قُتِلَ شهيداً أو انقلب غانماً، وأمَّا الحديث فغاير بينهما، حيث جعل الأجر في محل، والغنيمة في محل آخر. (2)
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديثين:
أولاً: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الحديثين:
اختلف العلماء في هذه المسألة، وفي دفع التعارض بين الحديثين على مذهبين:
الأول: مذهبُ إثباتِ نقصِ أجرِ المجاهدِ إنْ غَنِمَ، عملاً بحديثِ عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وهذا مذهب الجمهور من المحدثين، وممن قال به:
ابن بَطَّال، وابن دقيق العيد، والنووي، والطِّيبي، وأبو زرعة العراقي (3)، والكرمَاني، وابن حجر، والعيني، والسيوطي، والمناوي، والآلوسي. (4)
(1) انظر حكاية التعارض بين الحديثين في الكتب الآتية: إكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض
(6/ 330)، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (3/ 748)، وإحكام الأحكام، لابن دقيق العيد (2/ 303)، وتفسير القرطبي (5/ 179)، والآداب الشرعية، لابن مفلح (3/ 205)، وفتح الباري، لابن حجر (6/ 11)، وعمدة القاري، للعيني (1/ 231 - 232).
(2)
انظر حكاية التعارض بين الآية والحديث في: أحكام القرآن، لابن العربي (1/ 581)، وتفسير القرطبي (5/ 179).
(3)
هو: أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين الكردي الرازياني ثم المصري، أبو زرعة العراقي: قاضي الديار المصرية. مولده ووفاته بالقاهرة. رحل به أبوه (الحافظ العراقي) إلى دمشق فقرأ فيها، وعاد إلى مصر فارتفعت مكانته إلى أن ولي القضاء سنة 824 هـ، بعد الجلال البلقيني، وحمدت سيرته. من كتبه (البيان والتوضيح لمن أخرج له في الصحيح وقد مس بضرب من التجريح) و (الأطراف بأوهام الأطراف) للمزي، و (أخبار المدلسين) وغيرها. (ت: 826هـ). وقد ألف والده عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن، أبو الفضل، زين الدين، المعروف بالحافظ العراقي كتاباً سماه:(تقريب الأسانيد وترتيب المسانيد) شرحه في كتاب عنوانه (طرح التثريب في شرح التقريب) شرح فيه نصف الكتاب ولم يكمله، فأتمه ابنه الحافظ أبو زرعة، أحمد بن عبد الرحيم. انظر: الأعلام، للزركلي (1/ 148)، (3/ 344).
(4)
انظر على الترتيب: شرح البخاري، لابن بطال (5/ 8)، وإحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، لابن دقيق العيد (2/ 304 - 305)، وشرح صحيح مسلم، للنووي (13/ 78)، وشرح الطيبي على مشكاة المصابيح (7/ 340)، وطرح التثريب، للعراقي (7/ 196)، وصحيح البخاري بشرح الكرماني (1/ 157)، وفتح الباري، لابن حجر (6/ 11)، وعمدة القاري، للعيني (14/ 85)، والديباج على مسلم، للسيوطي (4/ 501)، وفيض القدير، للمناوي (5/ 492)، وروح المعاني، للآلوسي (11/ 40).
ويرى هؤلاء أنْ لا تعارض بين حديث أبي هريرة وحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهم؛ إذ الأول مُطلَق والثاني مُقَيَّد، فيُحْمَل المُطلَق على المُقَيَّد.
قالوا: ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: «مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ» : «أي مع أجرٍ خالصٍ إنْ لم يغنم شيئاً، أو مع غنيمةٍ خالصةٍ معها أجر، وكأنَّه سَكَتَ عن الأجر الثاني الذي مع الغنيمة لنقصه بالنسبة إلى الأجر الذي بلا غنيمة، والحاملُ على هذا التأويل أنَّ ظاهر الحديث أنَّه إذا غَنِمَ لا يحصل له أجر، وليس ذلك مراداً؛ بل المراد أو غنيمة معها أجرٌ أنقَص من أجر من لم يغنم؛ لأنَّ القواعد تقتضي أنَّه عند عدم الغنيمة أفضل منه وأتم أجراً عند وجودها، فالحديث صريح في نفي الحرمان، وليس صريحاً في نفي الجمع» . (1)
وأما حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه فمعناه: «أنَّ الغزاة إذا سَلِمُوا أو غَنِمُوا يكون أجرهم أقلَّ من أجر من لم يَسْلَم، أو سَلِمَ ولم يَغْنَم، وأنَّ الغنيمة هي في مُقابَلَةِ جُزءٍ مِنْ أجرِ غزوهم، فإذا حَصَلت لهم فقد تعجَّلوا ثُلُثَي أجرهم المترتِّب على الغزو، وتكون هذه الغنيمة من جملة الأجر» . (2)
قالوا: ولا تعارض بين الحديثين؛ فإن الذي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه رجوعه بما نال من أجر أو غنيمة، ولم يقل إنَّ الغنيمة تُنقص الأجر، ولا قال أجره كأجر من لم يغنم، فهو مُطْلَقٌ وحديث عبد الله بن عمرو مُقَيَّد؛ فوجب حمله عليه. (3)
المذهب الثاني: إثبات الأجر كاملاً للمجاهد، سواء غنم أم لم يغنم، عملاً بحديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخذاً بظاهر الآية.
وهذا مذهب: ابن عبد البر، وأبي الوليد الباجي، والقاضي عياض، وأبي العباس القرطبي، وأبي عبد الله القرطبي. (4)
(1) فتح الباري، لابن حجر (6/ 11)، وانظر: طرح التثريب، للعراقي (7/ 196).
(2)
شرح صحيح مسلم، للنووي (13/ 78).
(3)
انظر: شرح صحيح مسلم، للنووي (13/ 78).
(4)
انظر على الترتيب: الاستذكار، لابن عبد البر (14/ 10)، والمنتقى شرح الموطأ، لأبي الوليد الباجي
(3/ 160)، وإكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض =
قال ابن عبد البر: «وفي هذا الحديث - يريد حديث أبي هريرة رضي الله عنه دليل على أنَّ الغنيمة لا تُنقِصُ من أجر المجاهد شيئاً، وأنَّ المجاهدَ وافِرُ الأجر، غَنِمَ أو لم يَغنَم، ويَعضُدُ هذا ويشهد له: ما اجتمع على نَقْلِهِ أهلُ السِّير والعلم بالأثر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ لعثمان، وطلحة، وسعيد بن زيد، بأسْهُمِهِم يومَ بدر، وهم غيرُ حاضِرِي القتال، فقال كلُّ واحدٍ منهم: وأجري يا رسول الله؟ قال: «وأجرك» . (1) وأجمعوا أنَّ تحليل الغنائم لهذه الأمَّة من فضائلها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِقَوْمٍ سُودِ الرُّؤوسِ قَبْلَكُمْ» . (2) وقال صلى الله عليه وسلم: «فُضِّلتُ بِخِصَالٍ
…
» وذكر منها: «وَأُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ» . (3) ولو كانت تُحبِطُ الأجر أو تُنقِصُه ما كانت فضيلة له». اهـ (4)
وقد اختلف أصحاب هذا المذهب في الجواب عن حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، على أقوال:
الأول: أنَّ الحديث محمول على من خرج بنية الجهاد وطلب المغنم، فيكونُ نقصُ أجرهِ بسبب نيَّتِهِ لا بسبب أخذه من الغنيمة.
وهذا جواب القاضي عياض، واختيار أبي عبد الله القرطبي. (5)
قال القاضي عياض: «وأصح ما يُجمَعُ فيه بين الحديثين أنَّ الأول قال فيه: «لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ، وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ» ، فهذا الذي ضَمِنَ له الجنة، أو يُرَدُّ إلى بيته مع ما نال من أجر أو غنيمة، وهذا الحديث الآخر لم يشترط فيه هذا الشرط، فيُحتمل أنَّه فيمن خرج بنية الجهاد وطلب المغنم،
= (6/ 330)، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (3/ 749)، وتفسير القرطبي (5/ 179).
(1)
انظر: المستدرك للحاكم (3/ 415، 495).
(2)
أخرجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: الإمام أحمد في مسنده (2/ 252)، والترمذي في سننه، في كتاب التفسير، حديث (3085)، وإسناده صحيح.
(3)
أخرجه من حديث جابر رضي الله عنه: البخاري في صحيحه، في كتاب الصلاة، حديث (438)، ومسلم في صحيحه، في كتاب المساجد، حديث (521).
(4)
التمهيد، لابن عبد البر (18/ 341 - 342)، والاستذكار (14/ 10).
(5)
تفسير القرطبي (5/ 179).
فهذا شَرَّكَ بما يجوز له التشريك فيه، وانقسمت نِيَّتُه بين الوجهين فنقص أجره، والأول أخلص فَكَمُلَ أجره». اهـ (1)
وتَعقَّبَه الحافظ ابن حجر فقال: «وفيه نظر؛ لأنَّ صَدْرَ الحديثِ مُصَرِّحٌ بأنَّ الْمُقْسِم رَاجِعٌ إِلَى مَنْ أَخْلَصَ؛ لقوله في أوله: لَا يُخْرِجهُ إِلَّا إِيمَان بِي وَتَصْدِيق بِرُسُلِي» . اهـ (2)
قلت: ليس في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ذكر هذا القيد، وهو قوله:«لَا يُخْرِجهُ إِلَّا إِيمَان بِي، وَتَصْدِيق بِرُسُلِي» ، وإنما جاء هذا القيد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وعليه فلا يُسَلَّم الاعتراض من ابن حجر.
القول الثاني: أنَّ المراد بنقص أجر من غنم: أنَّ الذي لا يغنم يزداد أجره لحزنه على ما فاته من الغنيمة، كما يؤجر من أُصيب بماله، فكان الأجر لِمَا نَقَص عن المضاعفة بسبب الغنيمة عند ذلك كالنقص من أصل الأجر.
وهذا جواب ابن عبد البر، وأبي العباس القرطبي. (3)
قال ابن عبد البر في الجواب عن الحديث: يريد - والله أعلم - أنْ يكون الأجرُ مضاعفاً لها بما نالها من الخوف، وعلى ما فاتها من الغنيمة، كما يُؤجر من أُصيب بماله مضاعفاً، فيؤجر على ما يَتَكلّفُه من الجهاد أجر المجاهد، وعلى ما فاته من الغنيمة أجراً آخر، كما يُؤجر على ما يَذهَبُ من مالِهِ ونحوِ ذلك. اهـ (4)
وللقاضي عياض جواب آخر قريب من هذا، قال: «وأوجه من هذا عندي في استعمال الحديثين على وجهيهما أيضاً: أنَّ نقص أجر الغانم بما فتح الله عز وجل عليه من الدنيا، وحساب ذلك بتمتعه عليه في الدنيا، وذهاب شَظَف عيشه في غزوه، وبُعْدِه، إذا قُوبِلَ بمن أخفق ولم يُصِبْ منها شيئاً، وبقي على شَظَف عيشه، والصبر على غزوه في حاله، وجَدَ أجر هذا أبداً في
(1) إكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض (6/ 330 - 331).
(2)
فتح الباري، لابن حجر (6/ 12).
(3)
انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (3/ 749).
(4)
الاستذكار، لابن عبد البر (14/ 12). بتصرف يسير، وانظر: التمهيد (18/ 343).
ذلك وافياً مطرداً، بخلاف الأول، ومثله في الحديث الآخر:«فَمِنَّا مَنْ مَاتَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا (1)» (2) فكان هذا إذا لم يهدب ثمرة الدنيا والاتساع فيما فتح عليه من مغانمها، وبقي على حالته الأولى، كان أجره في الصبر والتقلل على ما كان عليه، فلما خالف لم يكن له الأجر، فكأنه نقص بما كان له في التقدير، وكذلك هذا». اهـ (3)
وتَعقَّبَ الحافظ ابن حجر هذا الجواب فقال: «ولا يخفى مُبايَنَةُ هذا التأويل لسياق حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه» . اهـ (4)
القول الثالث: أنَّ حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما لا يَثْبُتْ؛ لأنَّه من رواية أبي هانئ حميد بن هانئ (5)، وليس بمشهور.
وهذا رأي أبي الوليد الباجي، قال:«ولا يَصِحُّ حَمْلُ الحديث على عمومه؛ لأنَّا لا نعلم غازياً أعظم أجراً من أهل بدر، على ما أصابوا من الغنيمة. وقد رُوي عن رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ - وكان ممن شهد بدراً - قال: «جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا تَعُدُّونَ أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ؟ قَالَ: مِنْ أَفْضَلِ الْمُسْلِمِينَ. أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا. قَالَ: وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ» . (6) وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لعمر بن الخطاب: «وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدْ
(1) يهدبها: أي يجنيها. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (5/ 249).
(2)
الأثر بتمامه عن خباب رضي الله عنه قال: «هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَلْتَمِسُ وَجْهَ اللَّهِ، فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ مَاتَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ نَجِدْ مَا نُكَفِّنُهُ إِلَّا بُرْدَةً إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَأَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ وَأَنْ نَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ مِنْ الْإِذْخِرِ» . أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب الجنائز، حديث (1276)، ومسلم في صحيحه، في كتاب الجنائز، حديث (940).
(3)
إكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض (6/ 331)، والنص يظهر أن فيه بعض التصحيفات، أصلحت بعضها من كتاب «إحكام الأحكام» ، لابن دقيق العيد (2/ 304)، وقد نقل كلام القاضي بنصه لكن لم يكمله.
(4)
فتح الباري، لابن حجر (6/ 12).
(5)
هو: حميد بن هانئ، أبو هانئ، الخولاني، المصري، قال أبو حاتم: صالح. وقال النسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في الثقات في التابعين، وقال الدارقطني: لا بأس به ثقة. وقال ابن عبد البر: هو عندهم صالح الحديث لا بأس به. روى له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم، والأربعة. انظر: تهذيب التهذيب، لابن حجر (3/ 45).
(6)
أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب المغازي، حديث (3992).