الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثاني: أنه لو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر، والرضا بالكفر كفر.
الثالث: أنه لا يليق بجلال الله أنْ يأمر جبريل بأنْ يمنعه من الإيمان.
الرابع: أَنَّ الإيمان يصح بالقلب كإيمان الأخرس، فحال البحر لا يمنعه.
الخامس: أَنَّ التوبة بعد المعاينة غير نافعة لفرعون؛ فحينئذ لا يبقى لهذا الذي نُسِبَ إلى جبريل فائدة. (1)
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديث:
للعلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديث مسلكان:
الأول: مسلك قبول الحديث مع توجيهه.
وعلى هذا المسلك جمهور العلماء من مفسرين ومحدثين، وقد ذكروا عِدَّةَ أجوبة في توجيه الحديث:
الأول: أَنَّ فرعون كان كافراً كفر عناد؛ فإنه حينما توقف النيل توجه منفرداً وأظهر أنه مُخلص؛ فأُجريَ له النيل، ثم تمادى على طغيانه وكفره، فخشي جبريل أنْ يُعاوِدَ تلك العادة فيُظهر الإخلاص بلسانه؛ فتُدركه رحمة الله، فيُؤخره في الدنيا، فيستمر على غيّهِ وطغيانه، فدسَّ في فَمِهِ الطين ليمنعه من التكلم بما يقتضي ذلك، ولا يلزم من فِعْلِ جبريل جهلٌ ولا رضاً بكفر، وأيضاً فإيمانه في تلك الحالة على تقدير أنه كان صادقاً بقلبه لا يُقبل منه؛ لأنه وقع في حال الاضطرار، ولذلك عقب الآية بقوله تعالى:(آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)) [يونس: 91]، وفيه إشارة إلى قوله تعالى:(فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا)[غافر: 85].
(1) انظر حكاية الإشكال في الكتب الآتية: الكشاف، للزمخشري (2/ 354)، ومفاتيح الغيب، للرازي (17/ 125)، ولباب التأويل في معاني التنزيل، للخازن (2/ 460)، وروح المعاني، للآلوسي (11/ 241).
وهذا جواب الحافظ ابن حجر. (1)
الجواب الثاني: أَنَّ فعل جبريل يشبه أنْ يكون أنه اعتقد تجويز المغفرة للتائب وإنْ عاين، ولم يكن عنده قَبْلُ إعلام من الله تعالى أَنَّ التوبة بعد المعاينة غير نافعة.
وهذا جواب القاضي ابن عطية. (2)
الجواب الثالث: أَنَّ الله سبحانه وتعالى منع فرعون من الإيمان وحال بينه وبينه عقوبةً له على كفره السابق، ورَدِّه للإيمان لما جاءه، وأما فعل جبريل من دَسِّ الطين في فيه فإنما فعل ذلك بأمر الله لا من تلقاء نفسه.
وهذا جواب الخازن. (3)
الجواب الرابع: أَنَّ المُراد بالرحمة في الحديث الرحمة الدنيوية، أي النجاة التي هي طُلبة المخذول، وليس من ضرورةِ إدراكها صحةُ الإيمان حتى يلزم من كراهته مالا يُتصور في شأن جبريل عليه السلام، من الرضا بالكفر، إذ لا استحالة في ترتب هذه الرحمة على مجرد التفوّه بكلمة الإيمان، وإنْ كان ذلك في حالة البأس واليأس، فيُحمل دسُّه عليه السلام على سد باب الاحتمال البعيد، لكمال الغيظ وشدة الحرد.
وهذا جواب أبي السعود. (4)
وتعقبه الآلوسي فقال: «ولا يخفى أَنَّ حمل الرحمة على الرحمة الدنيوية بعيد، ويكاد يأبى عنه ما أخرجه ابن جرير والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال لي جبريل عليه السلام: لو رأيتني يا محمد وأنا أغط فرعون بإحدى يدي وأدُسُّ من الحال في فيه، مخافة أن تدركه رحمة الله تعالى؛
فيغفر له» (5)، فإنه رتب فيه المغفرة على إدراك الرحمة، وهو ظاهر في أنه ليس المراد بها الرحمة الدنيوية؛ لأن المغفرة لا تترب عليها
(1) الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف، لابن حجر (2/ 355).
(2)
المحرر الوجيز، لابن عطية (3/ 141).
(3)
لباب التأويل في معاني التنزيل، للخازن (2/ 461).
(4)
تفسير أبي السعود (4/ 173).
(5)
تقدم تخريجه في أول المسألة.
وإنما يترتب عليها النجاة». اهـ (1)
الجواب الخامس: أنه فعل ذلك غضباً لله تعالى، لا أنه كره إيمان فرعون.
وهذا جواب المناوي. (2)
المسلك الثاني: مسلك تضعيف الحديث ورده.
وممن جنح إلى هذا المسلك: الزمخشري، والفخر الرازي.
قال الزمخشري: «والذي يُحْكَى أنه حين قال: (آمَنتُ) أخذ جبريل من حال البحر فدَسَّه في فيه، فللغضب لله على الكافر، في وقتٍ قد علم أَنَّ إيمانه لا ينفعه، وأما ما يُضم إليه من قولهم: «خشية أنْ تدركه رحمة الله» ، فمن زيادات الباهتين لله وملائكته، وفيه جهالتان: إحداهما: أَنَّ الإيمان يصح بالقلب، كإيمان الأخرس، فحال البحر لا يمنعه، والأخرى: أَنَّ من كره إيمان الكافر وأحب بقاءه على الكفر فهو كافر؛ لأن الرضا بالكفر كفر». اهـ (3)
وارتضى هذا القول ابن المنير؛ فإنه عَقَّبَ على كلام الزمخشري قائلاً: «ولقد أنكر منكراً، وغضب لله ولملائكته كما يجب لهم» . اهـ (4)
وقال الفخر الرازي: «السؤال الثالث: هل يصح أَنَّ جبريل أخذ يملأ فمه من الطين لئلا يتوب غضباً عليه؟ والجواب: الأقرب أنه لا يصح؛ لأن في تلك الحالة إما أن يقال: التكليف كان ثابتاً، أو ما كان ثابتاً، فإنْ كان ثابتاً لم يجُز على جبريل عليه السلام أن يمنعه من التوبة، بل يجب عليه أنْ يعينه على التوبة وعلى كل طاعة، وأيضاً فلو منعه بما ذكروه لكانت التوبة ممكنة؛ لأن الأخرس قد يتوب بأنْ يندم بقلبه ويعزم على ترك معاودة القبيح، وحينئذ لا يبقى لما فعله جبريل عليه السلام فائدة، وأيضاً لو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر، والرضا بالكفر كفر، وأيضاً فكيف يليق بالله تعالى أنْ يقول لموسى وهارون عليهما السلام:(فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)) [طه: 44]، ثم يأمر
(1) روح المعاني، للآلوسي (11/ 242).
(2)
فيض القدير، للمناوي (4/ 499).
(3)
الكشاف، للزمخشري (2/ 354).
(4)
الانتصاف، لابن المنير (2/ 354).
جبريل عليه السلام بأنْ يمنعه من الإيمان، ولو قيل: إن جبريل عليه السلام إنما فعل ذلك من عند نفسه لا بأمر الله تعالى فهذا يُبطله قول جبريل: (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ)[مريم: 64]، وأما إن قيل: إنَّ التكليف كان زائلاً عن فرعون في ذلك الوقت فحينئذ لا يبقى لهذا الفعل الذي نُسِبَ جبريل إليه فائدة أصلاً». اهـ (1)
وقد تعقب العلماء هذه الجرأة من الزمخشري والرازي في ردهما للحديث وإنكاره.
فقال الحافظ ابن حجر في رده على الزمخشري: «هذا إفراط منه في الجهل بالمنقول والغض من أهله، فإن الحديث صحيح بالزيادة
…
». اهـ (2)
وقال الخازن في رده على الرازي: «أما قول الإمام: «إنَّ التكليف هل كان ثابتاً في تلك الحالة أم لا؟ فإنَّ كان ثابتاً لم يجز لجبريل أن يمنعه من التوبة» ، فجوابه: أَنَّ هذا القول لا يستقيم على أصل المثبتين للقدر، القائلين بخلق الأفعال لله، وأنَّ الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وهذا قول أهل السنة المثبتين للقدر، فإنهم يقولون: إنَّ الله يحول بين الكافر والإيمان، ويَدُلُّ على ذلك قوله تعالى:(وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)[الأنفال: 24]، وقوله تعالى:(وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ)[البقرة: 88]، وقال تعالى:(وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ)[الأنعام: 110]، فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه قلَّبَ أفئدتهم مثل تركهم الإيمان به أول مرة، وهكذا فَعَلَ بفرعون، منعه من الإيمان عند الموت جزاء على تركه الإيمان أولاً، فَدَسُّ الطين في فم فرعون من جنس الطبع والختم على القلب، ومنع الإيمان وصون الكافر عنه، وذلك جزاء على كفره السابق، وهذا قول طائفة من المثبتين للقدر القائلين بخلق الأفعال لله.
ومن المنكرين لخلق الأفعال من اعترف أيضاً أَنَّ الله سبحانه وتعالى يفعل هذا عقوبة للعبد على كفره السابق؛ فيحسُن منه أنْ يُضِلَّه ويطبع على قلبه ويمنعه من الإيمان.
(1) مفاتيح الغيب، للرازي (17/ 125).
(2)
الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف، لابن حجر (2/ 354).
فأما قصة جبريل عليه السلام مع فرعون فإنها من هذا الباب، فإنَّ غاية ما يقال فيه: إنَّ الله سبحانه وتعالى منع فرعون من الإيمان وحال بينه وبينه عقوبة له على كفره السابق، ورَدُّهُ للإيمان لما جاءه.
وأما فعل جبريل من دَسِّ الطين في فيه فإنما فعل ذلك بأمر الله لا من تلقاء نفسه.
وأما قول الإمام: «لم يَجُزْ لجبريل أنْ يمنعه من التوبة بل يجب عليه أن يعينه عليها وعلى كل طاعة» ، فالجواب: أَنَّ هذا إذا كان تكليف جبريل كتكليفنا، يجب عليه ما يجب علينا، وأما إذا كان جبريل إنما يفعل ما أمره الله به، والله سبحانه وتعالى هو الذي منع فرعون من الإيمان، وجبريل منفذ لأمر الله، فكيف لا يجوز له منع من منعه الله من التوبة، وكيف يجب عليه إعانة من لم يُعِنْه الله، بل قد حكم عليه وأخبر عنه أنه لا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم، حين لا ينفعه الإيمان.
وقد يقال: إنَّ جبريل عليه السلام إما أنْ يتصرف بأمر الله فلا يفعل إلا ما أمر الله به، وإما أنْ يفعل ما يشاء من تلقاء نفسه لا بأمر الله، وعلى هذين التقديرين فلا يجب عليه إعانة فرعون على التوبة، ولا يحرم عليه منعه منها؛ لأنه إنما يجب عليه فعل ما أُمِرَ به، ويحرم عليه فعل ما نُهيَ عنه، والله سبحانه وتعالى لم يُخْبِر أنه أمره بإعانة فرعون، ولا حَرَّمَ عليه منعه من التوبة، وليست الملائكة مكلفين كتكليفنا.
وقوله: «وإنْ كان التكليف زائلاً عن فرعون في ذلك الوقت فحينئذ لا يبقى هذا الذي نُسب إلى جبريل فائدة» ، جوابه: أنْ يُقال: إنَّ للناس في تعليل أفعال الله قولين:
أحدهما: أَنَّ أفعاله لا تُعلل، وعلى هذا التقدير فلا يرد هذا السؤال أصلاً، وقد زال الإشكال.
والقول الثاني: أَنَّ أفعاله تبارك وتعالى لها غاية بحسب المصالح التي لأجلها فعلها، وكذا أوامره ونواهيه، لها غاية محمودة محبوبة لأجلها أمر بها ونهى عنها، وعلى هذا التقدير قد يقال لما قال فرعون: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، وقد علم جبريل أنه ممن حقت عليه كلمة
العذاب، وأنَّ إيمانه لا ينفعه دَسَّ الطين في فيه لتحقق معاينته للموت، فلا تكون تلك الكلمة نافعة له، وأنه وإنْ كان قالها في وقت لا ينفعه فدسَّ الطين في فيه تحقيقاً لهذا المنع، والفائدة فيه تعجيل ما قد قُضِيَ عليه، وسد الباب عنه سداً محكماً، بحيث لا يبقى للرحمة فيه منفذ، ولا يبقى من عمره زمن يتسع للإيمان، فإنَّ موسى عليه السلام لما دعا ربه بأنَّ فرعون لا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم، والإيمان عند رؤية العذاب غير نافع، أجاب الله دعاءه.
فلما قال فرعون تلك الكلمة عند معاينة الغرق استعجل جبريل فدس الطين في فيه لييأس من الحياة ولا تنفعه تلك الكلمة، وتحقق إجابة الدعوة التي وعد الله موسى بقوله:(قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا)[يونس: 89]، فيكون سعي جبريل في تكميل ما سبق في حكم الله أنه يفعله، ويكون سعي جبريل في مرضاة الله سبحانه وتعالى، منفذاً لما أمره به وقدره وقضاه على فرعون.
وأما قوله: «لو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر والرضا بالكفر كفر» ، فجوابه: ما تقدم من أَنَّ الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وجبريل إنما يتصرف بأمر الله، ولا يفعل إلا ما أمره الله به، وإذا كان جبريل قد فعل ما أمره الله به ونفذه فإنما رضي بالأمر لا بالمأمور به، فأيُّ كفر يكون هنا، وأيضاً: فإنَّ الرضا بالكفر إنما يكون كفراً في حقنا؛ لأنا مأمورون بإزالته بحسب الإمكان، فإذا أقررنا الكافر على كفره ورضينا به كان كفراً في حقنا لمخالفتنا ما أمِرْنا به.
وأما من ليس مأموراً كأمرنا، ولا مكلفاً كتكليفنا، بل يفعل ما يأمره به ربه؛ فإنه إذا نفَّذَ ما أمره به لم يكن راضياً بالكفر، ولا يكون كفراً في حقه، وعلى هذا التقدير فإنَّ جبريل لما دسَّ الطين في في فرعون كان ساخطاً لكفره، غير راض به، والله سبحانه وتعالى خالق أفعال العباد، خيرها وشرها، وهو غير راضٍ بالكفر، فغاية أمرِ جبريل مع فرعون أنْ يكون منفذاً لقضاء الله وقدره في فرعون من الكفر، وهو ساخط له غير راضٍ به.
وقوله: «كيف يليق بجلال الله أنْ يأمر جبريل بأن يمنعه من الإيمان» فجوابه: أَنَّ الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا يسأل عما يفعل.
وأما قوله: «وإنْ قيل: إنَّ جبريل إنما فعل ذلك من عند نفسه لا