الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية والثلاثون: غزوة بدرالكبرى
عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع اللقاء الثاني والثلاثين من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن غزوة بدرٍ الكبرى وهي الغزوة العظيمة التي فرق الله فيها بين الحق والباطل.
وأعزَّ الإِسلام وأهله وأذلَّ الكفر وأهله.
عباد الله! وحديثنا عن غزوة بدرٍ سيكون حول العناصر التالية:
العنصر الأول: بين يدي الغزوة
.
العنصر الثاني: يوم الفرقان يوم التقى الجمعان.
العنصر الثالث: نتائج الغزوة.
العنصر الأول: بين يدي الغزوة.
وصلت الأنباء إلى المدينة أن قافلة ضخمةً لقريش عائدةٌ من الشام إلى مكة تحمل لأهلها الثروة الطائلة، يقودُها أبو سفيان بنُ حربٍ مع رجالٍ لا يزيدون عن الثلاثين أو الأربعين.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "هذه عيرُ قريش، فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعلّ الله ينفلكموها"(1)
وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك أن يضرب قريشاً ضربة اقتصادية تقصم
(1) قال الشيخ الألباني: حديث حسن، انظر "فقه السيرة"(ص 218).
ظهورهم؛ لأنهم بهذه الأموال يستعينون بها على محاربة الإِسلام والمسلمين.
وأراد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أن يعوض أصحابه ما تركوا من أموال وديار في مكة أرغموهم عليها كفار قريش.
ولم يعزم الرسول- صلى الله عليه وسلم على أحدٍ بالخروج، بل ترك الأمر للرغبة المطلقة، ثم سار بمن أمكنه الخروج.
وخرج المسلمون إلى بدر وهم ثلاث مائةٍ وتسعة عشر رجلاً، منهم مئة من المهاجرين وبقيتهم من الأنصار، ولم يكن معهم من الخيل إلا فرسان: فرسٌ للمقداد بن الأسود، وفرسٌ للزبير بن العوام رضي الله عنهما.
وكان معهم سبعون بعيراً يتعقب الرجلان والثلاثة على البعير الواحد، حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له زميلان يتعاقبان بعيراً.
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا يوم بدرٍ كل ثلاثةٍ على بعير، وكان أبو لبابة وعليٌ بن أبي طالبٍ زميلي رسول الله- صلى الله عليه وسلم.
قال: وكانت عقبةُ النبي صلى الله عليه وسلم (جاء دورة ليمشي).
فقال أبو لبابة وعليُّ بن أبي طالب: يا رسول الله نحن نمشي عنك - ليظل راكبًا-.
فقال صلى الله عليه وسلم: "ما أنتما بأقوى على المشي مني ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما"(1).
عباد الله! قد بلغ أبا سفيان خروج المسلمين لأخذ القافلة، فسلك بها في
(1) قال الشيخ الألباني: إسناده حسن، انظر "فقه السيرة"(ص 219).
طريق الساحل، وأرسل ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة يستصرخ أهلها حتى يسارعوا إلى استنقاذ أموالهم.
واستطاع (ضمضم) هذا إزعاج البلدةِ قاطبةً، فقد وقف على بعيره بعد أن جدع أنفهُ، وحول رحلهُ، وشق قميصه، يصيحُ: يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة! أموالكم مع أبي سفيان عرض لها محمدٌ وأصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث، الغوث!
عباد الله! فقام أشراف مكة، يحثون أهل مكة على أن ينفروا سراعاً؛ ليُخلِّصوا تجارتهم، من محمَّد وأصحابه، فخرجوا في نحو الألف، معهم مائة فارسٍ ومعهم- المغنيات يضربن بالدف، ويغنين بهجاء المسلمين.
وخرجوا من ديارهم كما أخبرنا الله تعالي: {بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 47] وأقبلوا في تحملٍ وحنقٍ عظيم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لما يريدون من أخذ عيرهم.
عباد الله! ولما رأى أبو سفيان أنه قد نجا وأحرز العير، كتب إلى قريش أن ارجعوا فإنكم إنما خرجتم لتُحرِزوا عيركمُ وقد سلَّمها الله، فوصلهم الخبرُ وهم بالجحفةَ. فهمُّوا بالرجوع؛ إلا أن أبا جهل أصرَّ على الخروج والوصول إلى بدر، قائلاً: والله لا نرجع حتى نأتي بدراً فنقيم عليها ثلاثاً، ننحرُ الجُزر، ونطعم الطعام، ونُسقى الخمر، وتعزف علينا القيان، حتى تسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا؛ فلا يزالون يهابوننا بعد ذلك اليوم أبداً، ومضت قريش في مسيرها مستجيبة لرأي أبي جهل حتى نزلت بالعدوة القصوى من وادي بدرٍ، وكان المسلمون قد انتهوا من رحيلهم المضني إلى العدوة الدنيا.
وهكذا اقترب كلا الفريقين من الآخر، وهو لا يدري ما وراء هذا اللقاء الرهيب.
عباد الله! ولما وصل الخبرُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن كفار قريش قد خرجوا لملاقاتهم، وأن العيرَ قد نجت، وهي على مشارف مكة استشار أصحابه في لقاء العدو،
فقال بعضهم: ما خرجنا إلا للعير، وما أردنا النفير، ولم نستعد له، وقد أخبرنا الله عز وجل في كتابه عن هؤلاء، فقال تعالى:{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)} [الأنفال: 5 - 7].
عباد الله! وكان الأنصار قد بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الثانية على أن يحموه في بلدهم (المدينة)، ولم يبايعوه على القتال معه خارج المدينة، لذلك اقتصرت السرايا التي سبقت بدرٍ على المهاجرين، ونظرًا لوجود الأنصار مع المهاجرين ببدرٍ، وتفوقهم العددي الكبير فقد أراد الرسول صلى الله عليه وسلم معرفة رأيهم من الموقف الجديد.
فاستشار صلى الله عليه وسلم أصحابه عامةً وقصد الأنصار خاصة.
وقد روى ابن إسحاق خبر المشورة بسند صحيح قال:
"فاستشار الناس وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امضي لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما
قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى بَرْكِ الغماد (1) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.
فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشيروا عليَّ أيها الناس؟ وإنما يريد الأنصار .. فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل.
قال سعد: فقد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجلٌ واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصُبرٌ في الحرب، صُدقٌ عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقرُ به عينك، فسر على بركة الله. فسُر رسول الله- صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشّطه ثم قال صلى الله عليه وسلم:"سيروا وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم"(2).
عباد الله! فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم طاعة الصحابة وشجاعتهم، واجتماعهم على القتال، وحبهم للتضحية، بدأ بتنظيم جندهُ ثم أرسل عيونه - الجواسيس- يأتونه بأخبار القوم، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم أين القوم، وعددهم، ومن فيهم من أشراف قريش.
(1) وهو مكان يضرب فيه المثل في البعد.
(2)
انظر "السيرة النبوية الصحيحة"، أكرم ضياء العمري (1/ 358 - 359).