الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثالثة والعشرون: هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة
عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاءٍ جديدٍ من سيرة الحبيب محمَّد صلى الله عليه وسلم، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة.
عباد الله! الهجرة من مكة إلى المدينة كانت بوحي من الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم. قال صلى الله عليه وسلم: "رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي -أي ظني- إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب"(1).
عباد الله! بعدما تحدد المكان الذي يُهاجر إليه؟ أذن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة فخرجوا أفراداً وجماعات، وتغلبوا على جميع الصعوبات التي واجهتهم.
عباد الله! وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد أصحابه ينتظر أن يؤذن له في الهجرة، ولم يتخلف معه بمكة أحد من المهاجرين؛ إلا من حبس أو فتن؛ إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر رضي الله عنهما.
وكان أبو بكر كثيراً ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"على رسلك يا أبا بكر، فإني أرجو أن يؤذن لي" فقال أبو بكر: أترجو ذلك يا رسول الله بأبي أنت؟ قال: "نعم"، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلف راحلتين كانتا عنده من ورق السمر أربعة أشهر (2)
(1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 3622)، ومسلم (رقم 2272).
(2)
رواه البخاري (رقم 2297).
إستعداداً للهجرة من مكة إلى المدينة.
عباد الله! رأت قريش أن الديار قد خلت من أهلها، وأن المسلمين قد تركوا مكة مهاجرين إلى المدينة، تاركين ديارهم وأموالهم، وشعرت قريش أيضاً بأن الإِسلام أضحت له دارٌ يأرز إليها، وحِصنٌ يحتمي به، وتوجست خيفةً من عواقب هذه المرحلة الخطيرة في دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلمت قريش أيضاً أن محمداً لا بد أن يدرك أصحابه اليوم أو غداً، فاجتمعوا في دار الندوة ليتخذوا قراراً حاسماً في هذا الأمر.
فرأى بعضهم أن توضع القيود في يد محمَّد صلى الله عليه وسلم ويشد وثاقه ويرمى به في السجن لا يصله منهم إلا الطعام، ويترك على ذلك حتى يموت، ورأى آخر أن ينفي من مكة فلا يدخلها وتنفض قريش يديها من أمره، وقد استُبعِدَ هذان الاقتراحان لعدم جدواهما واستقر الرأي على الاقتراح الذي أبداه أبو جهل.
قال أبو جهل: أرى أن تأخذوا من كل بطن من قريش شاباً نسيباً وسطاً فتياً، ثم نعطي كل فتى سيفاً صارماً، ثم يضربونه جميعاً ضربة رجل واحدٍ، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلِّها، ولا أظن أن بني هاشم يقوون على حرب قريش كافة، فإذا لم يبق أمامهم إلا الدية أديناها.
ورضي كفار مكة بهذا الحل للمشكلة التي حيرتهم، وانصرفوا ليقوموا على تنفيذ هكذا القرار الجائر الغادر.
وقد أخبرنا الله في كتابه عن هذا الاجتماع، قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ
الْمَاكِرِينَ (30)} [الأنفال: 30](1).
عباد الله! لما أجمع كفار مكة على قتله صلى الله عليه وسلم، أوحى الله تبارك وتعالى إليه بالإذن في الهجرة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته إلى بيت أبي بكر رضي الله عنه ليخبره بذلك.
تعالوا بنا لنستمع إلى عائشة رضي الله عنها وهي تخبرنا الخبر، قالت عائشة رضي الله عنها: "بينما نحن يوماً جلوس في بيت أبي بكر في نحو الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعاً- في ساعة لم يكن يأتينا فيها- فقال أبو بكر: فداءً له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له، فدخل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: أخْرِجْ مَنْ عِندَك.
فقال أبو بكر: إنما هم أهلك، بأبي أنت يا رسول الله.
قال صلى الله عليه وسلم: فإني قد أذن لي في الخروج.
فقال أبو بكر: الصحابة بأبي أنت يا رسول الله؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم". قال أبو بكر: فخذ- بأبي أنت يا رسول الله- إحدى راحلتي هاتين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بالثمن"، قالت عائشة: فجهزناهما أحسن الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاق" (2).
إخوة الإِسلام! وتواعدا أن يخرجا ليلاً إلى غار ثور، فيمكثا ثلاث ليال
(1)"سيرة ابن هشام" مع "الروض الأنف"(2/ 221 - 223).
(2)
رواه البخاري (رقم 3905).
وذلك من تمام إحكام الخطة، ورجاء النجاة والسلامة، ذلك أن قريشاً تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم مهاجر إلى المدينة فإذا فقدته ستطلبه جهة المدينة- في الشمال- فخرج صلى الله عليه وسلم أول ما خرج جهة الجنوب، جهة اليمن مخالفاً تماماً الطريق الذي قصده، حتى إذا خرجت قريش من جهة المدينة فلم تدركه علمت أنه قد نجى، فترجع فيخرج بعد آمناً سالماً مطمئناً.
واستأجرا أجيراً يهديهما الطريق، وكان كافراً إلا أنهما أمناه على هذا السر، وأسلما له الراحلتين، وواعداه أن يأتيهما بعد ثلاث في غار ثور.
وفي الليل خرج صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً أن ينام في فراشه تلك الليلة، وأتيا غار ثور فدخلاه، وكان عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما يبيت عندهما إلى الثلث الأخير من الليل، فإذا دخل السحر تدلى إلى مكة فأصبح بينهم كأنه بائت فيهم، فيستمع إليهم بالنهار، وما يكيدونه للنبي صلى الله عليه وسلم فإذا جاء الليل ذهب إليهما، فأخبرهما بما سمع من مكائد قريش، وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يرعى الغنم قريباً من الغار، فإذا كانت العشاء راح عليهما بالغنم في الظلام، فيحلبان ويطعمان ثم ينعق عامر على الغنم فتنزل إليه، صنع ذلك حتى انتهت الثلاث.
عباد الله! وجاء الشباب الذين أجمعوا أمرهم على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وباتوا ليلتهم أمام الدار، فلم يرعهم إلا خروج علي بدلاً من محمَّد صلى الله عليه وسلم، فجن جنونهم وطاروا هنا وهناك في الطرقات، يبحثون عن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه حتى انتهى بهم أثر الأقدام إلى غار ثور الذي دخله النبي صلى الله عليه وسلم، فأعمى الله أبصارهم، وصرف قلوبهم عن دخول الغار، وهم أمام بابه وأبو بكر يقول: يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا.
فيقول صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما، يا أبا بكر لا تحزن إن
عباد الله! وصل المطاردون إلى باب الغار، ولكن الله غالب على أمره، فصرف قلوبهم عن دخول الغار، فرجعوا يجرون أذيال الخيبة، وبعد ثلاث جاء الأجير الكافر في موعده، وكان هادياً خريتاً -أي ماهراً بالطريق- بالراحلتين فارتحل النبي صلى الله عليه وسلم إحداهما وأبو بكر الأخرى، وخرج معهم عامر ابن فهيرة، وانطلق بهم الدليل نحو الجنوب، ثم انحاز بهم نحو الساحل ثم أخذ طريق الساحل إلى المدينة.
عباد الله! ولكن قريشاً لم تسكت ولم تهدأ، ساءها خروج النبي صلى الله عليه وسلم من بينهم، وفشلهم في إدراكه.
فذاعوا في الناس: من جاء بمحمد وصاحبه أحياءً وأمواتاً فله ديتهما، والدية مائة من الإبل، والإبل أنفس أموال العرب وأحبها إلى قلوبهم، فسال لعاب الناس، من الذي يأتي بمحمد وصاحبه فيأخذ مائتين من الإبل.
عباد الله! تعالوا بنا لنستمع إلى سراقة بن مالك وهو يخبرنا الخبر قال سراقة: "فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي إذ أقبل رجل فيهم حتى قام علينا ونحن جلوس.
فقال: يا سراقة! إني رأيت آنفاً أسودة بالساحل أراها محمداً وأصحابه.
قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلاناً وفلاناً انطلقوا بأعيننا.
ثم لبثت في الجلس ساعة ثم قمت فدخلت، فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي فخررت عنها، فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره فركبت فرسي- وعصيت الأزلام- تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت- وأبو بكر يكثر الالتفات- ساخت يد فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة، إذا لأثرِ يديها عُثانٌ ساطعٌ في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره فناديتهم بالأمان، فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم؛ أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزءاني، ولم يسألاني إلا أن قال: أخف عنا.
فسألته أن يكتب لي كتاب أمان، فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أُدم، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
إخوة الإِسلام! النبي صلى الله عليه وسلم في طريقه إلى المدينة، وقد وصلت الأخبار إلى المدينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من مكة إلى المدينة فكانوا يغدون كل غداة إلى ظاهر المدينة ينتظرونه، حتى إذا اشتد الحر عليهم عادوا إلى بيوتهم.
حتى إذا كان اليوم الذي قدم فيه انتظروه حتى لم يبق ظل يستظلون به
(1) رواه البخاري (رقم 3906).
فعادوا، وقدم الرسول صلى الله عليه وسلم وقد دخلوا بيوتهم، فبصر به يهودي فناداهم بأعلى صوته: يا معشر العرب، هذا جَدُّكم الذي تنتظرون، فخرجوا فاستقبلوه وكان فرحتهم به غامرة فقد حملوا أسلحتهم وتقدموا نحو ظاهر الحرّة فاستقبلوه.
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قباء في بني عمرو بن عوف أربع عشرة ليلة وأسس مسجد قباء، ولما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل المدينة أرسل إلى زعماء بني النجار، فجاءوا متقلدين سيوفهم وعدد الذين استقبلوه من الأنصار خمس مئة. فأحاطوا بالرسول وبأبي بكر وهما راكبان، ومضى الموكب داخل المدينة.
"وقيل في المدينة: جاء نبي الله، جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم" وقد صعد الرجال والنساء فوق البيوت، وتفرق الغلمان في الطرق ينادون: يا محمَّد يا رسول الله، يا محمَّد يا رسول الله.
قال الصحابي البراء بن عازب رضي الله عنه وهو شاهد عيان "ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم"(1).
عباد الله! أما الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فهي كثيرة جداً منها:
أولاً: الدين أغلى عند المسلم من كل شيء، فالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه تركوا ديارهم وأموالهم فداء ونصرة لهذا الدين العظيم، وهذا يظهر من قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا
(1)"السيرة النبوية الصحيحة" أكرم ضياء العمري (ص 218 - 219).
مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)} [الحشر: 8].
ومن قوله صلى الله عليه وسلم: "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى، والله! لولا أني أخرجت منك، ما خرجت"(1).
عباد الله! كفار مكة أخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأنهم قالوا: ربنا الله، ولأنهم دخلوا في دين الله، وهذا يظهر من قول ورقة بن نوفل لرسولنا صلى الله عليه وسلم: يا ليتني فيها جذعاً حين يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟ فقال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي" (2).
ولذلك على المسلم إذا ضيق عليه في دينه، ولم يتمكن من عبادة ربه، أن يهاجر إلى أي بلد مسلم آخر ليتمكن من عبادة ربه، فليس هناك على وجه الأرض شخص أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هناك بلد أفضل من مكة ومع ذلك فقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة.
ثانياً: الله عز وجل ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة مهما كاد الكفار للمسلمين وخططوا، قال تعالى:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)} [غافر: 51]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} [الصافات: 171 - 173]، وقال تعالى:{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)} [المجادلة: 21].
وهذا يظهر من نصر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في هجرته من مكة إلى المدينة.
(1)"صحيح ابن ماجه"(2523).
(2)
متفق عليه، رواه البخاري (رقم 3)، ومسلم (رقم 160).
فالصحابة الكرام رضي الله عنهم هناك في المدينة لا يملكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، وكفار مكة يطاردون رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل مكان ليقتلوه، ومع ذلك نصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم وأيده بجنوده التي لا يعلمها إلا الله.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.