الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العنصر الثاني: موقف المؤمنين وموقف المنافقين من غزوة تبوك
.
عباد الله! كما أنَّ الشدائد تظهر نفاق المنافقين، فهي كذلك تظهر إيمان المؤمنين، وغزوة تبوك كانت في ظروف صعبة جداً؛ حر شديدٌ، وعُسَرةٌ في الماء وقلة في المال، وطول في الطريق، فظهر فيها نفاق المنافقين، وكذلك ظهر فيها إيمان المؤمنين الصادقين.
فعندما حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين على الإنفاق في سبيل الله لتجهيز جيش المسلمين، جاء بعض المؤمنين الصادقين بكل ماله، ومنهم من جاء بنصف ماله، وجاء عثمان بن عفان رضي الله عنه بألف دينار، فنثرها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسُرَّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل يقبلها في حجره وهو يقول:
"ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم"(1).
عباد الله! وجعل فقراء المسلمين يتصدقون بما يجدونه وإن كان يسيراً، والمنافقون يسخرون من هؤلاء وهؤلاء، فيتهمون أهل الغنى والبذل العظيم بالرياء والسمعة! والفقراء بأن الله عن يسير صدقتهم لغني، وفضحهم الله عز وجل في كتابه.
فقال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)} [التوبة: 79].
عباد الله! وحاول بعض المنافقين أن يتستر خلف نفقته، ففضحهم الله عز وجل، فَرَدَّ عليهم نفقاتهم قال تعالى: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ
(1)"صحيح الترمذي"(3701).
إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)} [التوبة: 53 - 54].
عباد الله! وعندما أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم النفير العام في المدينة، وكان ذلك وقت جني التمر وطيب الثمار واشتهاء الظلال، شقَّ ذلك على بعضهم، فعاتب الله الذين تباطئوا بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)} [التوبة: 38].
وقد طالبهم الله في كتابه بأن ينفروا شباباً وشيوخاً، وأغنياء وفقراء. بقوله تعالى:{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)} [التوبة: 41].
عباد الله! ولقد استطاع رسول الله- صلى الله عليه وسلم أن يحشد ثلاثين ألف مقاتل من المهاجرين والأنصار وأهل مكة والقبائل العربية الأخرى.
وحزن الفقراء من المؤمنين الصادقين لأنهم لا يملكون نفقة الخروُج إلى الجهاد.
جاء سبعة رهطٍ من الفقراء إلى النبي- صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يحملهم فقال: "لا أجد ما أحملكم عليه"، فرجعوا يبكون حزناً ألا يجدوا ما ينفقون فهذا عليَّةُ ابن زيد رضي الله عنه أحد البكاءين، قام بالليل فصلى لله وبكى ثم ناجى الله تبارك وتعالى قائلا: اللهم إنك أمرت بالجهاد ورغبت فيه، ولم تجعل في يدي ما أتقوى به، ولم تجعل عند رسولك ما يحملني عليه، اللهم إنِّي تصدَّقت الليلة على كل مسلم بأي مظلمة أصابني بها، في عرضي أو مالي أو جسدي، ثم أصبح بين الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أين المتصدِّق الليلة؟ " فليقم، فقام
عُلية بن زيد فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر فقال صلى الله عليه وسلم: "أبشر فوالذي نفسي بيده لقد كُتبت في الزكاة المتقبلة"(1).
وفي رواية أن النبي- صلى الله عليه وسلم أخبره أنه قد غُفِرَ له (2).
عباد الله! وبلغ الأمر بالضعفاء والعجزة - ممن أقعدهم المرض، أو النفقة عن الخروج- إلى حد البكاء شوقاً للجهاد، وتحرجاً من القعود حتى نزل فيهم قرآن:
{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)} [التوبة: 91 - 92] وقد خصَّ النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء المتخلفين المعذورين ممن حسنت نياتهُم، واستقامت طويتهم بقوله: "إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً؛ إلا كانوا معكم: قالوا: يا رسول الله! وهم بالمدينة؟!
قال صلى الله عليه وسلم: "وهم بالمدينة، حبسهم العذر"(3).
وقد حكى كعب بن مالك في حديثه الطويل إنه لم يبق بالمدينة إلا المنافقون وأهل الأعذار من الضعفاء (4).
(1) صحيح: انظر "فقه السيرة"(ص 405)، "البداية والنهاية"(5/ 5).
(2)
انظر "السيرة النبوية الصحيحة" العمري (2/ 530).
(3)
"فتح الباري"(8/ 126).
(4)
"فتح الباري"(8/ 126).