الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثامنة والثلاثون: حديث الإفك
عباد الله! في الجمعة الماضية تكلمنا عن غزوة بني المصطلق، وتبين لنا دور المنافقين الخبيث في تلك الغزوة، فقد حاولوا إثارة العصبية الجاهلية بين المهاجرين والأنصار ولكنَّ الله سلَّم.
وقال زعيمهم عبد الله بن أُبي بن سلول لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله.
وقال أيضاً: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وقد فضحه الله عز وجل، وأنزل في فضيحته قرآناً يتلى إلى يوم القيامة.
عباد الله! ولم يتوقف هذا المنافق ومَنْ معه من المنافقين إلى هذا الحد من الاعتداء والمكر، ولكنهم سَعوا إلى إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم في نفسه وأهل بيته، فشنوا حرباً نفسية مريرة من خلال حادثة الإفك التي اختلقوها وليس لها أساس من الصحة.
عباد الله! ما هو الإفك؟ ومَنْ الذي اختلقه وتولى نشره بين الناس في غزوة بني المصطلق، وبعد الرجوع إلى المدينة؟
ومن هي البريئة التي رميت بهذا الإفك عدواً وظلماً؟
وكيف عاش الرسول- صلى الله عليه وسلم والمسلمون في المدينة شهراً كاملاً على أعصابهم بسبب هذا الإفك؟
وكيف برأ الله تعالى أم المؤمنين مِنْ فوق سبع سماوات، فأنزل فيها قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة؟
عباد الله! تعالوا بنا إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لنستمع لها وهي تخبرنا الخبر؛ عائشة رضي الله عنها أتعرفونها؟ هي الصديقة بنت الصديق، التي تربت في بيت أبي بكر الصديق، ثم انتقلت وهي طفلة إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تعرف الشرّ.
عائشة رضي الله عنها التي قال- صلى الله عليه وسلم فيها: "أحب الناس إليَّ عائشة ومن الرجال أبوها".
عائشة رضي الله عنها التي قال صلى الله عليه وسلم فيها: "إن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام".
عائشة رضي الله عنها التي قال صلى الله عليه وسلم فيها: "عائشة زوجتي في الجنة".
عائشة رضي الله عنها التي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة هذا جبريل يقرئك السلام".
ثم بعد ذلك، تأتي الرافضة والشيعة الشنيعة، يتهمون أم المؤمنين عائشة بالفاحشة، قاتلهم الله أنى يؤفكون.
عباد الله! روى الإمامُ البخاري في "صحيحه" والإمام مسلمٌ في "صحيحه" أن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفراً أقرع بين نسائهِ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه".
قالت رضي الله عنها: "فأقرع بيننا في غزوة غزاها" -وهي غزوة بني المصطلق- فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بعد ما أُنزل الحجاب فأنا أُحملُ في هودجي، وأنزل فيه مسيرنا".
قالت- رضي الله عنها: "حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه وقفل"
-أي: رجع- "ودنونا من المدينة آذن ليلةً بالرَّحيل، فقمت حين آذنوا بالرَّحيل، فمشيتُ حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرَّحلِ فلمستُ صدري فإذا عِقدي -من جزع أظفار- قد انقطع، فرجعت فالتمستُ عِقدي فحبسني ابتغاؤه" -أي: تأخرت وأنا أبحث عن عقدي-.
قالت: رضي الله عنها: "وأقبل الرهطُ الذين كانوا يرحلون لي فحملوا هودجي، فرحلوه على بعيري الذي كنت أركبُ وهم يحسبون أني فيه، وكانت النساء إذا ذاك خِفافاً لم يغشهنَّ اللحم، فلم يستنكر القوم ثِقل الهودج حين رحلوه ورفعوه، وكنت جارية حديثة السنِّ فبعثوا الجمل وساروا".
قالت رضي الله عنها: "ووجدت عِقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داعٍ ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم سيفقدوني فيرجعون إليَّ".
قالت رضي الله عنها: "فبينما أنا جالسةٌ في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السُّلمي، قد عرّسَ مِن وراء الجيش" -أي: تأخر- "فأدّلج" -أي: جاء في آخر الليل- "فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني، وقد كان يراني قبل أن يُضرب الحجابُ عليَّ".
قالت رضي الله عنها: "فاستيقظتُ باسترجاعه حين عرفني" - أي: انتبهت من نومي على قوله "إنا لله وإنا إليه راجعون" - "فخمرتُ وجهي بجلبابي، ووالله ما يُكلمني كلمة، ولا سمعتُ منه كلمة غير استرجاعهِ، حتى أناخ راحلتهُ .. فركبتُها، فانطلق يقود بي الرَّاحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا مُوغرين في نحر الظهيرة" -أي: نزلوا في شدة الحر- "فهلك من هلك
في شأني وكان الذي تولى كِبَرهُ عبد الله بن أُبي ابن سلول".
عباد الله! عاد الجيش من غزوة بني المصطلق إلى المدينة، وفي المدينة أخذ المنافقون يتكلمون بهذا الإفك هنا وهناك- وهذه هي البيئة التي يترعرع فيها النفاق- تقول رضي الله عنها:"فقدمنا المدينة فاشتكيتُ" -أي: مرضت- "حين قدمنا المدينة شهراً، والناسُ يفيضون في قول أهل الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك، وهو -أي والذي- يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله- صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم فيُسلِّم ثم يقول: "كيف تيكم" فذاك يريبني، ولا أشعر بالشرِّ.
تقول رضي الله عنها: "حتى خرجت بعد ما نقهت وخرجت معي أم مسطح قِبلَ المناصع، وهو متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا .. فأقبلتُ أنا وأم مسطح قِبلَ بيتي حين فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مِرطها فقالت: تعس مِسطح. فقلتُ لها: بئس ما قلت أتسبين رجلاً قد شهد بدراً، قالت: أي هنتاهُ - أي يا مسكينة - أو لم تسمعي ما قال؟ قلتُ: وماذا قال؟
قالت: فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددتُ مرضاً إلى مرضي"
تقول رضي الله عنها: "فلما رجعت إلى بيتي، فدخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّم ثم قال: "كيف تيكم" قلتُ: أتأذِنُ لي أن آتي أبويَّ؟
قالت: وأنا حينئذ أُريد أن أتيقن الخبر من قِبلَهما، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول رضي الله عنها: فجئت أبويَّ فقلت لأمي: يا أُمَّتاهُ! ما يتحدث الناس؟
فقالت: يا بنيةُ هوِّني عليك. فوالله! لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها، ولها ضرائر إلا كثَّرن عليها -أي الكلام- قالت: قلتُ: سبحان
الله! وقد تحدث الناس بهذا؟
قالت: "فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع" - أي لا ينقطع- "ولا أكتحل بنوم ثم أصبحت أبكي".
عباد الله! أبطأ الوحي في النزول؛ والرسول صلى الله عليه وسلم يتألم مما يسمعُ من كلام الناس، فدعا بعض أصحابه يستشيرهما في فِراق أهله.
تقول رضي الله عنها: "ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ بن أبي طالبٍ وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي -أي أبطأ ولم ينزل- يستشيرُهما في فراق أهله".
قالت: فأمَّا أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلمُ في نفسه لهم من الوُدِّ.
فقال: يا رسول الله! همُ أهلك ولا نعلمُ إلا خيراً.
وأمَّا عليُ بن أبي طالب فقال: لم يُضيق اللهُ عليك، والنساء سواهما كثيرٌ، وإن تسأل الجارية تصدُقك.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الجارية فقال لها: هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟
فقالت الجارية: والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمراً قطُّ أغمصه عليها -أي أعيبها به- أكثر من أنها جارية حديثة السنِّ، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الدَّاجن فتأكله".
تقول رضي الله عنها: "فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقال: يا معشر المسلمين! من يعذرني من رجل قد بلغ أذاهُ في أهل بيتي- يقصد عبد الله بن أبي ابن سلول- فوالله، ما علمتُ على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما
علمتُ عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي".
فقام سعد بن معاذ فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله! إن كان من الأوس ضربنا عنقه. وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك.
تقول: فقام سعد بن عبادة -وهو سيد الخزرج وكان رجلاً صالحاً ولكن اجتهلتهُ الحمية - فقال لسعد بن معاذ: كذبت، لعمرُ الله لا تقتله، ولا تقدر على قتله، فقام أُسيد بنُ حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة: كذبت، لعمرُ الله! لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فثار الحيَّان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر. فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت".
عباد الله! عائشة رضي الله عنها ازدادت حزناً على حزنها وألماً على ألمها.
تقول رضي الله عنها: "وبكيتُ يومي ذلك. لا يرقأ لي دمعٌ -أي لا ينقطع- ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمعٌ ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنان أن البكاء فالقٌ كبدي، فبينما هما جالسان عندي، وأنا أبكي، استأذنت عليَّ امرأة من الأنصار فأذنتُ لها، فجلست تبكي.
تقول رضي الله عنها: "فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس. ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل، وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء".
تقول رضي الله عنها: "فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال: "أما بعدُ: يا عائشة فإنهُ قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرِّئك اللهُ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف
بذنبه ثم تاب تاب الله عليه".
قالت: فلما قضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم مقالته، قلص دمعي -أي: ارتفع- أي: جف -حتى ما أحِسُ منه قطره- وهذه الحالة من الحزن والألم شبيه بالموت -، فقلتُ لأبي: أجب عني رسول الله- صلى الله عليه وسلم فيما قال.
فقال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
تقول رضي الله عنها: "وأنا جارية حديثة السِّنِّ لا أقرأ كثيراً من القرآن"
فقلت: إني والله لقد عرفتُ أنكم قد سمعتم بهذا حتى استقر في نفوسكم وصدقتم به، فإن قلت لكم إني بريئة- والله يعلم أني بريئة- لا تُصدِّقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر، -والله يعلم أني بريئة- لتصُدِّقوني، وإني والله ما أجدُ لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف:{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)} .
استعانت رضي الله عنها بالله على أمرها بعد أن انقطعت النصرة من أهل الأرض.
عباد الله! وجاء الفرج بعد الكرب.
تقول رضي الله عنها: "ثم تحولتُ فاضطجعت على فراشي وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله مُبرِّئي ببراءتي، ولكن والله ما كنتُ أظن أن ينزل في شأني وحيٌ يُتلى، ولشأني كان أحقرُ في نفسي من أن يتكلم الله عز وجل فيَّ بأمر يُتلى. ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في
النوم رُؤيا يُبِّرئني الله بها".
تقول رضي الله عنها: "فوالله ما رام -أي فارق- رسول الله- صلى الله عليه وسلم مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحدٌ حتى أنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم، فأخذه ما كان يأخذه من البُرحاء -أي الشدة- عند الوحي حتى إنه ليتحدَّرُ منه مِثلُ الجُمان -أي مثل حبات اللؤلؤ- من العرق في اليوم الشات من ثقل القول الذي أنزل عليه".
تقول رضي الله عنها: "فلما سُرِّي -أي كُشِفَ- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: "أبشري يا عائشة! أما اللهُ فقد برَّأك".
تقول رضي الله عنها: "فقالت ليَ أمي: قومي إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم".
فقلتُ: والله لا أقوم إليه، ولا أحمدُ إلا الله، هو الذي أنزل براءتي، تقول رضي الله عنها: فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ .. } .
تقول رضي الله عنها: "فلما نزلت براءتي قال أبو بكر- وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره -: والله! لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً وقد قال في عائشة ما قال، فأنزل الله عز وجل:{وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)} فقال أبو بكر: بلى والله إني لأحبُّ أن يغفر الله لي، فرجَّع إلى مسطح ما كان ينفقه عليه وقال: والله لا أقطع عنه النفقة بعد ذلك (1).
(1) رواه البخاري (رقم 2661)، ومسلم (رقم 2770).
عباد الله! بسبب كلمة واحدة تلفظ بها منافق حاقد بين الناس ولاكتها الألسن، عاش رسول الله- صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، وأبو بكر وأهل بيته والمسلمون كلهم شهراً كاملاً في غم وهم وحزن .. ولذلك أنزل الله عز وجل الآيات يؤدب فيها المسلمين ويعلمهم كيف يتعاملوا مع الشائعات، وهذا هو الذي نعرفه في الجمعة القادمة -إن شاء الله تعالى-
اللهم رد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً.