الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأردنية-، وصلتهم الأخبار أن الروم قد تجهزوا لهم بمئتي ألف مقاتل لقتالهم؛ مائة ألف من الروم، ومائة ألف أخرى من نصارى العرب.
عباد الله! وجيش المسلمين ثلاثة آلاف مقاتل فقط، وكأن النسبة واحد إلى سبعين. وبات الجيش الإِسلامي بمعان ليلتين يتشاورون في الأمر، أيتقدمون للهجوم على عدوهم على بركة الله، معتصمين بالله، واثقين به؟ أم يبعثون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يخبره الخبر فيرى رأيه، فإما أن يمدهم بمدد من عنده، وإما أن يأمرهم بأمره فيمضوا له.
فقام عبد الله بن رواحة رضي الله عنه خطيباً في الجيش فقال: يا قوم: والله إن الذي تكرهون للتي خرجتم تطلبون: الشهادة، وإنا ما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظفر -أي نصر- وإما شهادة.
فقال الناس: صدق والله ابن رواحه، ثم تشجعوا وتحركوا نحو العدو (1).
العنصر الرابع: أحداث الغزوة:
عباد الله! وصل جيش الإسلام إلى "مؤتة" وعسكروا هناك، وتعبأوا للقتال في ثلاثة آلاف مقاتل، ووصل جيش الروم بقوته في مئتي ألف مقاتل يقول أبو هريرة رضي الله عنه -وهو ممن أسلموا بعد صلح الحديبية، وكانت مؤتة أول غزوة يحضرها-: "شهدت مؤتة فلما دنا المشركون -أي الروم- رأيت ما لا قبل لأحد به، رأيت عدداً وعدة وسلاحاً وخيلاً، وديباجاً وحريراً وذهباً، فبرق بصري.
فقال لي ثابت بن أرقم: يا أبا هريرة كأنك ترى جُموعاً كثيرة؟
(1)"زاد المعاد"(3/ 382)، "مختصر سيرة ابن هشام"(ص 215).
قال: إي والله.
فقال له ثابت: إنك لم تشهد معنا بدراً، إنا لا نُنصر بالكثرة" (1).
وصدق ثابت رضي الله عنه لأن الله قال في كتابه: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123].
وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)} [الأنفال: 26].
عباد الله! وهناك في "مؤتة" التقى الجمعان، وبدأ القتال المرير، ودخل ثلاثة آلاف مقاتل من المسلمين في مئتي ألف مقاتل من المشركين، معركة عجيبة تشاهدها الدنيا بالدهشة والحيرة، ولكن إذا هبت ريح الإيمان جاءت بالعجائب.
عباد الله! أخذ الراية زيد بن حارثة رضي الله عنه حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يقاتل بضراوة وبسالة لا يوجد لها نظير إلا في أمثاله من أبطال الإِسلام، فلم يزل يقاتل حتى شاط في رماح القوم -أي: سال دمه- فقتل رضي الله عنه.
ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، فقاتل على فرسه الشقراء حتى أرهقه القتال، فنزل عن فرسه فعقرها -أي: ضرب قوائمها بالسيف وهي قائمة- ورفع الراية بيده، والسيف في يده الأخرى وأخذ يقاتل القوم وهو يقول:
(1)"البداية والنهاية"(4/ 244) وعزاه للبيهقي.
يا حبذا الجنة واقترابها
…
طيبة وبارداً شرابها
والروم روم قد دنا عذابها
…
كافرة بعيدة أنسابها
عليَّ إن لاقيتها ضِرابها
عباد الله، فما زال رضي الله عنه يقاتل القوم حتى قطعت يمينه، فأخذ الراية بشماله فقطعت شماله، فاحتضن الراية بعضديه حتى قتل رضي الله عنه، فعوضه الله عن يديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء.
"ولذلك كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا سلم على عبد الله بن جعفر بن أبي طالب يقول: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين"(1).
ولذلك لقب جعفر بن أبي طالب بجعفر الطيار.
عباد الله، يقول ابن عمر رضي الله عنهما "وقفت على جعفر يومئذ، وهو قتيل فعددت به خمسين بين طعنة وضربة ليس منها شيء في دبره- يعني في ظهره"(2).
وفي رواية أخرى: يقول رضي الله عنه "كنت فيهم في تلك الغزوة فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى، ووجدنا ما في جسده بضعاً وتسعين من طعنة ورميةٍ"(3).
عباد الله، لما قتل جعفر بن أبي طالب أخذ الراية عبد الله بن رواحة الأمير الثالث المعين بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفعها، فوجد في نفسه تردداً عن
(1) رواه البخاري (رقم 3709).
(2)
رواه البخاري (رقم 4260).
(3)
رواه البخاري (رقم 4261).
الاقتحام فأكرهها على النزول وقال:
أقسمتُ يا نفسُ لتنزلنّه
…
إن أجلب الناسُ وشدُّوا الرنَّه
لتنزلنه أو لتكرهنّه
…
مالي أراك تكرهين الجنة
وقال أيضاً:
يا نفسُ إلا تُقتلي تموتي!
…
هذا حمام الموت قد صليت!
وما تمنيت فقد أُعطيت!
…
إن تفعلي فعلهما هُديت!
ثم نزل، فأتاه ابن عم له بِعَرْقٍ من لحم فقال: شُدَّ بهذا صلبك فقد لقيت ما لقيت، فنهس منه نهسه، ثم سمع جلباً -أي صوتاً- فقال: وأنت في الدنيا -يعني القتال دائر بين المسلمين والمشركين وأنت يا ابن رواحة في الدنيا- ثم رمى بقطعة اللحم، وأخذ سيفه، ودخل في صفوف المشركين فقاتل حتى قتل رضي الله عنه.
عباد الله! تقدم ثابت بن أرقم رضي الله عنه فرفع الراية وقال: يا قوم اصطلحوا على أميرٍ منكم، قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، لست لها، فاصطلح الناسُ على خالد بن الوليد رضي الله عنه وكانت هذه الغزوة أول غزوة يشهدها خالد في صفوف المسلمين؛ لأنه أسلم بعد صلح الحديبية.
عباد الله! أخذ خالد رضي الله عنه الراية وقاتل قتالاً مريراً.
يقول خالدٌ رضي الله عنه: "لقد انقطعت في يدي يوم مؤته تسعة أسياف فما بقي في يدي إلا صفيحة لي يمانية"(1)، ولذلك سماهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومها سيف الله،
(1) رواه البخاري (4266).
قال صلى الله عليه وسلم: "فأخذها سيف من سيوف الله ففتح الله له"(1).
عباد الله! ولما كان الليل أعاد خالد بن الوليد رضي الله عنه تنظيم الجيش وغير فيه وبدل، فجعل الميمنة ميسرة، والميسرة ميمنة، والمقدَّمة ساقة، والساقة مقدمة، ووضع خطة للانسحاب بالجيش في صباح اليوم التالي في عزة وكرامة دون أن يُشعر العدو أنه منسحب، فلما طلع النهار وتراءى الجمعان رأى العدو أن الجيش قد تغير وتبدّل، فقذف الله الخوف في قلوب الكفار، فظنوا أن خالداً قد أُمِدَّ بمددٍ من المدينة لأنَّ صورة الجيش قد تغيرت، وأخذ خالد يقاتل وهو يرجع إلى الوراء بالجيش قليلاً قليلاً قليلاً، فألقى الله الرعب أيضاً في قلوب الكفار، وظنوا أن خالداً يريدُ استدراجهم ليبيدهم، فانسحبوا قبل المسلمين، وقتل المسلمون من المشركين كثيراً، وأوقع جيش الإِسلام بالعدو خسائر كبيرة، وولَّي العدو مهزوماً واكتفى خالد بهذه النتيجة، وآثر الانصراف بمن معه.
وكانت النتيجة في غزوة مؤته لصالح المسلمين، وكانت نصراً وفتحاً.
عباد الله! ومن أرض المعركة بمؤته إلى المدينة حيث قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر المسلمين في المدينة بنتائج المعركة.
يقول أنس رضي الله عنه: خطب النبي- صلى الله عليه وسلم فقال: أخذ الراية زيدٌ فأصيب -أي: قتل-، ثم أخذها جعفر فأصيب -أي: قتل- ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب -أي: قتل- ثم أخذها خالد بن الوليد مِن غير إمرة ففتح الله له وعيناه تذرفان (2).
عباد الله! فلما جاءه من يخبره قال النبي صلى الله عليه وسلم: تُخبرني أم أُخبرك؟
(1) رواه البخاري (4262).
(2)
رواه البخاري (رقم 4262).