الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة التاسعة والأربعون: قصة كعب بن مالك وصاحبيه
أيها الإخوة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن قصة كعب بن مالك وصاحبيه؛ عندما تخلفوا عن غزوة تبوك.
عباد الله! تكلمنا في الجمعة الماضية عن غزوة تبوك، وقد تخلف عنها ثلاثة من الصحابة وهم: كعبُ بن مالك، وهلالُ بن أُمية الواقفي، ومرارة بن الربيع العمري، والثلاثة من الأنصار المعروفين بحسن إيمانهم.
فكعب بن مالك رضي الله عنه شهد جميع الغزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل غزوة تبوك سوى بدرٍ، وشهد أيضاً بيعة العقبة الثانية، وهلال بن أمية، ومرارةُ بن الربيع شهدا بدراً.
عباد الله! الثلاثة من المؤمنين الصادقين تخلفوا عن غزوة تبوك بدون عذرٍ، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزوة، جاء كل منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترف بذنبه، فماذا قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وماذا قالوا له؟ وماذا فعل بهم؟ هذا الذي نعرفه في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى-.
تعالوا بنا عباد الله لنستمع إلى كعب بن مالك رضي الله عنه وهو يخبرنا الخبر:
يقول كعب رضي الله عنه:"لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك، غير أني قد تخلفت في غزوة بدرٍ ولم يُعاتب أحداً تخلف عنها، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوِّهم، على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة
- وهي الليلة التي بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار فيها على الإِسلام، وأن يؤوه وينصروه- حين تواثقنا على الإِسلام -أي تبايعنا عليه وتعاهدنا- يقول رضي الله عنه: "وما أُحِبُّ أن لي بها مشهد بدرٍ، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها -أي: أشهر عند الناس بالفضيلة-
يقول رضي الله عنه: "وكان من خبري، حين تخلّفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قطُّ أقوى ولا أيسر مني حين تخلفتُ عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قطُّ، حتى جمعتهما في تلك الغزوة".
يقول رضي الله عنه: "فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرٍّ شديدٍ، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً، واستقبل عدداً كثيراً، فَجَلَّى للمسلمين أمرهم" -أي كشفه وبينه وأوضحه- "ليتأهبوا أهبة غزوهم" -أي: ليستعدوا بما يحتاجون إليه في سفرهم ذلك- "فأخبرهم بوجههم الذي يريد" -أي: عرفهم جميعاً أنه يريد أن يغزو الروم- يقول رضي الله عنه: "والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرٌ، ولا يجمعهم كتابُ حافظ- يريد بذلك الديوان- فقلَّ رجل يريد أن يتغيب إلا يظنُّ أن ذلك سيخفى به، ما لم ينزل فيه وحيٌ من الله عز وجل".
يقول رضي الله عنه: "وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، فأنا إليها أَصَعُر -أي: أميل- فتجهز رسول الله- صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم؛ فأرجعُ ولم أقضِ شيئاً، وأقول في نفسي: أنا قادرٌ على ذلك إذا أردتُ، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمرَّ بالناس الجدُّ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً والمسلمون معه، ولم أقض منِ جهازي شيئاً، ثم غدوت فرجعتُ ولم أقض شيئاً، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو -أي تقدم الغزاة وسبقوا وفاتوا- فهممت أن أرتحل فأدركهم، فياليتني فعلتُ، ثم لم يُقَدَّر ذلك لي.
يقول رضي الله عنه: "فطفقت إذا خرجتُ في الناس، بعد خروج رسول الله- صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى لي أسوةً، إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق" -أي: متهماً - أو رجلاً ممن عذر اللهُ من الضعفاء.
يقول رضي الله عنه: "ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالسٌ في القوم بتبوك: "ما فعل كعبُ بن مالك؟ " قال رجل منِ بني سلمة: يا رسول الله: حبسهُ بردَاهُ والنظر في عِطفيه" -أي: جانبيه، وهو إشارة إلى إعجابه بنفسه ولباسه- "فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله! يا رسول الله! ما علمنا عليه إلا خيراً، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
يقول رضي الله عنه: "فبينا هو على ذلك رأى رجلاً مبيضاً" -أي: لابسا البياض- "يَزُولُ به السَّراب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كن أبا خيثمة" فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري، وهو الذي تصدق بصاع التمر حين لمزه المنافقون".
قال كعب رضي الله عنه: "فلما بلغني أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً" -أي: راجعاً- "من تبوك، حضرني بثِّي" -أي: حزني الشديد- "فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بم أخرج من سخطه غداً؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً، زاح عني الباطل حتى عرفت أني لم أنجُ مِنه بشيءٍ أبداً، فأجمعت صِدقهُ" -أي: عزمت على أن أصدقه-.
يقول رضي الله عنه: "وأصبح رسول الله- صلى الله عليه وسلم -قادماً، وكان إذا قَدِمَ مِن سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك، جاءهُ المخلَّفون يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعاً وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى"، يقول رضي الله عنه: "حتى جئت، فلما سلمت تبسَّم تبسُّمَ المُغضب ثم قال:
"تعال" فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي: "ما خلّفَك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ " -أي: اشتريت راحلتك؟ - قال رضي الله عنه: "قلتُ: يا رسول الله! إني والله! لو جلستُ عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، لقد أعطيتُ جدلاً" -أي: فصاحة وقوة في الكلام- "ولكني والله! لقد علمت لئن حدَّثتك حديث كذب ترضى به عني، ليوشكن الله أن يُسخطك عليَّ، وإن حدَّثتُك حديث صدق تجد عليَّ فيه" -أي: تغضب- إني لأرجو فيه عُقبى اللهِ -أي: العاقبة الحسنة بتوبة الله عليَّ- والله! ما كان لي عذر، والله! ما كنت قطُّ أقوى ولا أيسر منيِّ حين تخلفت عنك، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم:"أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي اللهُ فيك"، فقمتُ".
يقول كعب رضي الله عنه: "وسار رجال مِن بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبت ذنباً قبل هذا، لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المخلفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك".
يقول رضي الله عنه "فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذِّب نفسي، ثم قلتُ لهم: هل لَقِيَ هذا معي من أحد قالوا: نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك، قال: قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمريُّ، وهلال بن أمية الواقِفي".
يقول رضي الله عنه: "فذكروا لي رجلين صالحين، قد شهدا بدراً فيهما أسوة".
يقول رضي الله عنه: "فمضيت حين ذكروهما لي".
يقول رضي الله عنه: "ونهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامِنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس- أو قال تغيروا لنا- حتى تنكرت لي في
نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلةً، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان"، "وأما أنا فكنت أشبَّ القوم" -أي: أصغرهم سناً- "وأجلدهم فكنت أَخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق ولا يكلِّمُني أحدٌ، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي: هل حركَ شفتيه برد السلام أم لا؛ ثم أصلي قريباً منه وأسارقه النظر" -أي: أنظر إليه خفية- "فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليَّ وإذا التفت نحوه أعرض عني".
يقول رضي الله عنه: "حتى إذا طال ذلك عليَّ من جفوة المسلمين، مشيت حتى تسوّرت جدار حائط أبي قتادة" -أي: علوت سور بستانه- "وهو ابن عمِّي وأحبُّ الناس إليَّ، فسلمت عليه فوالله ما ردَّ عليّ السلام" فقلت له: يا أبا قتادة! أنشدك بالله -أي: أسألك بالله- "هل تعلمني أحِبُّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فسكت، فعدتُ فناشدته فسكت، فعدت فناشدتهُ فقال: الله ورسوله أعلم.
ففاضت عيناي وتوليت حتى تسوَّرت الجدار، فبينما أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطيٌ من نبط أهل (الشام) -أي: فلاح- ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له إليَّ حتى جاءني فدفع إليَّ كتاباً من ملك غسان، وكنت كاتباً. فقرأته فإذا فيه: أما بعد، فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. فقلت حين قرأتها: وهذه أيضاً من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرتُها، حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحيُ" -أي: أبطأ- "إذا رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل فقال: لا بل اعتزلها فلا تقربنها، وأرسل إلى صاحِبيَّ بمثل ذلك فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. فجاءت امرأة هلال بن
أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ ضائع، ليس له خادم فهل تكرهُ أن أخدمه؟ قال: لا ولكن لا يقربنك، فقالت: إنه والله ما به من حركة إلى شيء، ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله- صلى الله عليه وسلم في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه؟ فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدريني ماذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب".
يقول رضي الله عنه: "فلبثت بذلك عشر ليالٍ، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا، ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينما أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منَّا، قد ضاقت على نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى على سَلْع" -وهو جبل بالمدينة- "يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر، فخررت ساجداً، وعرفت أنه قد جاء الفرج".
يقول رضي الله عنه: "فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله عز وجل علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا".
يقول رضي الله عنه: "فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرُني نزعت له ثوبيَّ فكسوتهما إياه ببشراه، والله! ما أملك غيرهما يومئذ".
يقول رضي الله عنه: "واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت أتأمَّم رسول الله- صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئوني بالتوبة، ويقولون لي:
لتهنِكَ توبة الله عليك، حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام طلحةَ بن عبيد الله رضي الله عنه يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره، فكان كعب لا ينساها لطلحة يقول رضي الله عنه: "فلما سلمتُ على رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور:
أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك" فقلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: "لا بل من عند الله عز وجل" يقول رضي الله عنه: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهه، حتى كأن وجهه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه".
يقول رضي الله عنه: "فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنْخَلِعَ من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله" -أي: أخرجه في سبيل الله- "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك"، قلت: إني أمسك سهمي الذي بخيبر، وقلت: يا رسول الله! إن الله تعالى إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أُحدِّث إلا صِدقاً ما بقيتُ".
يقول رضي الله عنه: "فوالله ما علمت أحداً من المسلمين أبلاه الله تعالى" -أي: أنعم عليه- "في صدق الحديث منذ ذكرتُ ذلك لِرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا أحسن مما أبلاني الله تعالى به، والله ما تعمدت كذبةً منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله تعالى فيما بقي".
ثم قال رضي الله عنه: "فأنزل الله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} حتى بلغ: {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة:117:119].
يقول كعب رضي الله عنه: "والله ما أنعم الله عليَّ من نعمة قطُّ بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن لا أكون كذبته فأهْلِكَ كما هلك الذين كذبوا.
إن الله تعالى قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد فقال الله تعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)} [التوبة: 95 - 96](1).
عباد الله! أما الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من قصة كعب بن مالك وصاحبيه فمنها:
أولاً: الصدق سفينة النجاة.
عباد الله! عليكم بالصدق فإنه ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة.
ففي الدنيا: نجا كعب بن مالك بالصدق هو وصاحباه.
وفي الآخرة: قال تعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119].
عباد الله! عليكم بالصدق، فهو طريق إلى الجنة، قال صلى الله عليه وسلم:"عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة"(2).
ثانياً: بعد الكرب والشدة يأتي الفرج، فهذا كعب بن مالك بعد أن ضاقت عليه نفسه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، جاء الفرج فسمع صارخاً يصرخ: يا كعب بن مالك! أبشر فخر ساجداً لله وقال: قد جاء الفرج.
(1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 4418)، ومسلم (رقم 2769).
(2)
متفق عليه، رواه البخاري (رقم 6094)، ومسلم (رقم 2607).
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لابن عباس: "واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا"(1).
ثالثاً: أعداء الإِسلام يتربصون بنا الدوائر، ويرصدون ما وقع بين المسلمين، فانظروا في اللحظة المناسبة أرسل ملك غسان إلى كعب بن مالك يطلبه:"الحق بنا نواسك".
رابعاً: التأسف على ما فات من الخير، وتمني المتأسف أنه كان فعله، لقول كعب بن مالك:"فياليتني فعلت".
خامساً: ردّ الغيبة عن المسلم، لقول معاذ بن جبل:"بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً".
سادساً: الحكم بالظاهر والله يتولى السرائر.
سابعاً: يُشرع لمن بُشر بنعمة ما يلي:
- سجود الشكر كما فعل كعب بن مالك رضي الله عنه عندما بشروه بتوبة الله عليه.
- مكافأة الذي يحملُ البشرى: فقد نزع كعب ثوبيه اللذين كان يلبسها، فكساهما الذي سمع صوته بالبشرى، وما كان يملك وقتئذ غيرهما.
- التصدق بالمال:
كما فعل كعب بن مالك رضي الله عنه فقد تصدق ببعض ماله.
ثامناً: خير أيام العبد على الإطلاق وأفضلها؛ يوم توبته إلى الله، وقبول
(1) صحيح: "رياض الصالحين" تحقيق الألباني.
الله توبته، لقول النبي- صلى الله عليه وسلم:"أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك".
تاسعاً: استحباب بكاء الإنسان على نفسه إذا وقعت منه معصية، وهذا ما وقع من كعب بن مالك وصاحباه.
عاشراً: في الحديث عظم أمر المعصية يقول الحسن البصري رحمه الله "يا سبحان الله ما أكل هؤلاء الثلاثة مالاً حراماً، ولا سفكوا دماً حراماً، ولا أفسدوا في الأرض، أصابهم ما سمعتم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فكيف بمن يواقع الفواحش والكبائر؟ ".
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.