الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال تعالى: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)} [الأنفال: 56]، وقال تعالى:{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)} [البقرة: 100]، وقال تعالى:{كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)} [المائدة: 64].
عباد الله! فها هم اليهود قديماً، خرج وفدٌ منهم من خيبر إلى كفار مكة يحرِّضونهم ويؤلبونهم على غزو رسول الله- صلى الله عليه وسلم، ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم، بل وشهدوا لهم بأن الشرك الذي هم عليه خيرٌ من الإِسلام الذي جاء به محمَّد صلى الله عليه وسلم، وشهدوا لهم أيضاً بأنهم أهدى من محمَّد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وفيهم قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)} [النساء: 51].
فأجابهم أبو سفيان لذلك، ثم انطلقوا إلى القبائل المجاورة ودعوهم إلى ما دعوا قريشاً إليه، فأجابتهم القبائل العربية أيضاً، وتواعدوا على المسير إلى المدينة، واجتمع بهذا التحريض -من اليهود- جيش قوامُهُ نحو عشرة آلاف مقاتل وذلك لاستئصال المسلمين في المدينة.
عباد الله! العنصر الثاني: الرسول- صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم في المدينة يستعدون لملاقات العدو:
لما وصل الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخروج هذا الجيش الكبير إلى المدينة، عقد مجلساً استشارياً مع أصحابه الكرام رضي الله عنهم ليشاورهم في خطة الدفاع عن المدينة فأشار عليه بعض الصحابة وهو سلمان الفارسي رضي الله عنه -
بحفر خندق من الجهة الشمالية للمدينة؛ لأن هذه الجهة هي الجهة الوحيدة التي يستطيع العدو أن يدخل إلى المدينة منها، فإن المدينة تقع بين حرتين من جهة الشرق والغرب يعجز العدو أن يدخل من جهتهما، وأما جهة الجنوب ففيها مساكن يهود بني قريظة وبينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهداً وميثاقاً على أن لا يدخل عدو من ناحيتهم.
عباد الله! وحفر الخندق مكيدة حربية- لم تكن العرب تعرفها من قبل- والحرب خدعة ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق واستجاب الصحابة رضي الله عنهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاموا جميعاً بتنفيذ الأمر على الفور وبسرعة قبل وصول العدو.
عباد الله! وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه ليحفر معهم في هذا الخندق، فوصل إليهم وهم يحفرون في غداةٍ باردة، وكان الوقت وقت شتاء وكان البردُ شديداً جداً، وكان الزمان زمان قحطٍ، فلما رأى صلى الله عليه وسلم ما بهم من التعب والجوع دعا لهم فقال:
"اللهم إن العيشَ عيشُ الآخرة
…
فاغفر للأنصار والمهاجرة"
فقالوا مجيبين له:
"نحن الذين بايعوا محمداً
…
على الجهاد ما بقينا أبداً" (1)
عباد الله! وأخذ صلى الله عليه وسلم يعمل مع أصحابه في حفر الخندق؛ يحفر بيده وينقل التراب بنفسه، حتى أغبر بطنه من شدة التراب.
(1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 2834)، ومسلم (رقم 1805).
يقول البراء بن عازب رضي الله عنه: لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني التراب جلدة بطنه، وكان كثير الشعر فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة وهو ينقل التراب يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا
…
ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلنّ سكينة علينا
…
وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأُولى قد بغوا علينا
…
وإن أرادوا فتنة أبينا
ثم يقول: "أبينا أبينا" ويمد بها صوته (1).
عباد الله! الرسول صلى الله عليه وسلم يحفر بنفسه في الخندق مع أصحابه، والصحابة- رضي الله عنهم يحفرون في الخندق هنا وهناك، وإذا بصخرة عظيمة تقابلهم فعجزوا عنها، فلجأوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم:"إني نازل" فخلع ثيابه ثم هبط إليها.
عباد الله! تعالوا بنا لنستمع إلى البراء بن عازب رضي الله عنه وهو يخبرنا الخبر يقول رضي الله عنه: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق وعرض لنا صخرة في مكان من الخندق، لا تأخذ فيها المعاول قال: فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع ثوبه ثم هبط إلى الصخرة، فأخذ المعول فقال: "باسم الله". فضرب ضربة، فكسر ثلث الحجر، وقال: "الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها من مكاني هذا".
ثم قال: "بسم الله" وضرب أخرى، فكسر ثلث الحجر.
فقال: "الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن وأُبصِرُ
(1) رواه البخاري (رقم 3034).
قصرها الأبيض من مكاني هذا" ثم قال: "بسم الله" وضرب ضربة أُخرى، فقلع بقية الحجر فقال: "الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأُبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا" (1).
عباد الله! وهكذا يبشر رسول الله- صلى الله عليه وسلم أصحابه بفتح هذه البلدان، وهم يُعانون من شدة الجوع والبرد، فرفع ذلك من روحهم المعنوية، فانطلقوا يعملون بجد ونشاط في حفر الخندق وهم يربطون الحجارة على بطونهم من شدة الجوع وهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم.
عباد الله! ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم في حفر الخندق أيضاً زيادة الطعام بين يديه صلى الله عليه وسلم، تعالوا بنا لنستمع إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه وهو يخبرنا الخبر. يقول رضي الله عنه:"إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كُدَية شديدة -أي صخرة- فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، فقال- صلى الله عليه وسلم: "أنا نازل". ثم قام وبطنه معصوب بحجر -ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً- فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب -أي الصخرة- فعاد كثيباً أهيل أو أهيم -أي صارت الصخرة رملاً سائلاً-
فقلت: يا رسول الله ائذن لي إلى البيت.
فقلت لامرأتي: رأيت من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، ما كان لي في ذلك صبر فعندك شيءٌ؟
قالت: عندي شعيرٌ وعَنَاقٌ - والعناقُ أنثى المعز-
يقول: فذبحت العناق وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم في البُرمة
(1) قال الألباني: "إسناده حسن" انظر "فقه السيرة"(ص 297).
-وهي القدر من الحجر- ثم جئتُ النبيَّ- صلى الله عليه وسلم والعجينُ قد انكسر والبرمةُ بين الأثافيِّ قد كادت أن تنضج. فقلت: طُعَيِّمٌ لي فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان.
قال- صلى الله عليه وسلم: "كم هو؟ " فذكرتُ له قال- صلى الله عليه وسلم: "كثيرٌ طيبٌ".
قال صلى الله عليه وسلم: "قل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي".
فقال صلى الله عليه وسلم: "قوموا"، فقام المهاجرون والأنصار وهم ألفٌ.
فلما دخل على امرأته قال: ويحك جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم، قالت: هل سألك؟ قلت: نعم.
قالت: الله ورسوله أعلم.
فقال صلى الله عليه وسلم: "ادخلوا ولا تضاغطوا -أي لا تزدحموا-".
فجعل صلى الله عليه وسلم: يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم- ويخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه- ويقرب إلى أصحابه ثم ينزع، فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا وبقي بقية فقال- صلى الله عليه وسلم:"كُلي هذا وأهدى فإن الناس أصابتهم مجاعة"(1).
عباد الله! ومن الأحداث التي حدثت في حفر الخندق أيضاً.
يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، وفينا فتىً حديثُ عهد بعرس، فجعل يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء النهار ليرجع لأهله، فاستأذنه يوماً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذ عليك سلاحك، فإني
(1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 4101، 4102)، ومسلم (رقم 2039).