الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة السادسة عشرة
الهجرة إلى الحبشة وأعجب ما رأى المسلمون في أرض الحبشة
عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون أيضاً عن هجرة بعض المسلمين إلى الحبشة، وعن أعجب ما رأى المسلمون في أرض الحبشة.
عباد الله! في الجمعة الماضية تبين لنا أن المسلمين هاجروا من مكة إلى الحبشة فراراً بدينهم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم:"إن بالحبشة ملكاً لا يظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه".
تقول أم سلمة رضي الله عنها: "فخرجنا إليها أرسالاً، حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار، آمنين على ديننا، ولم نخش فيها ظلماً".
تقول: "فلما رأت قريش أنا قد أصبنا داراً وأمناً، غاروا منا، فاجتمعوا على أن يبعثوا إلى النجاشي فينا، ليخرجنا من بلاده وليردنا عليهم".
فبعد أن ذكرت رضي الله عنها المحاولة الفاشلة التي قام بها كفار مكة قالت: "ثم قال النجاشي: فوالله؛ ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، ولا أطاع الناس فيّ؛ فأطيع الناس فيه؟! ردوا عليهما هداياهم، فلا حاجة لي بها، واخرجا من بلادي".
تقول رضي الله عنها: "فخرجا مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به".
تقول رضي الله عنها: "فأقمنا مع خير جار في خير دار"(1).
عباد الله! لما فشلت قريش في محاولتها الغادرة وهي إرجاع المهاجرين من أرض الحبشة إلى مكة، أخذوا يصبوا العذاب صباً على المسلمين في مكة ويضيقون عليهم.
"فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين ضاقت عليه (مكة) وأصابه فيها الأذى، ورأى من تظاهر قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما رأى؛ استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فأذن له"(2).
عباد الله! تعالوا بنا لنستمع إلى عائشة رضي الله عنها وهي تخبرنا الخبر، تقول رضي الله عنها: "لم أعقل أبويّ قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم، إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون، خرج أبو بكر مهاجراً نحو أرض الحبشة حتى بلغ بَرْك الغماد -وهو موضع على خمس ليال من مكة إلى جهة اليمن- لقيه ابن الدُّغنة -وهو سيد القارة (3) - فقال: أين تريد يا أبا بكر؟
فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي. قال ابن الدَّغنة: إن مثلك يا أبا بكر لا يَخرج ولا يُخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، ارجع واعبد ربك ببلدك، فرجع، وارتحل معه ابن الدَّغنة فطاف ابن الدَّغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا
(1) انظر "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص. 17 - 177).
(2)
انظر "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص 212).
(3)
القارة: قبيلة مشهورة، يضرب بهم المثل في قوة الرمي.
يخرج مثله ولا يُخرج، أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم، ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟
فلم تكذب قريش بجوار ابن الدَّغنة، وقالوا له: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل فيها وليقرأ ما شاء؛ ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به؛ فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا.
فقال ذلك ابن الدَّغنة لأبي بكر، فلبث أبو بكر كذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لأبي بكر؛ فابتني مسجداً بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه.
وكان أبو بكر رجلاً بكاءً لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من الشركين، فأرسلوا إلى ابن الدَّغنة فقدم عليهم، فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتني مسجداً بفناء داره فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فانهه؛ فإن أحبَّ أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك -أي ننقض عهدك- ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان.
قالت عائشة: فأتى ابن الدَّغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي عاقدتك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترد إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أنى أخفرتُ في رجل عقدتُ له.
فقال أبو بكر: فإني أرد عليك جوارك، وأرضى بجوار الله عز وجل" (1).
(1) رواه البخاري (3905).
عباد الله! وهذا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يخبرنا عن هجرته هو وأصحابه إلى الحبشة.
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "بلغنا مخرج النبي- صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة فوافقنا جعفر بن أبي طالب، فأقمنا معه حتى قدمنا، فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لكم أنتم يا أهل السفينة هجرتان" (1).
عباد الله! قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عندما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأصحاب السفينة: "سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم"، فلما بلغ الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا ما هو بأحق بي منكم وله (أي: لعمر وأصحابه) هجرةٌ واحدة ولكم يا أهل السفينة هجرتان"(2).
ولما عاد مهاجروا الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يسألهم ويخبرونه بما رأوا في أرض الحبشة من أعاجيب:
فعن جابر رضي الله عنه قال: لما رجع مهاجروا البحر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة؟! " قال فتية منهم: بلى يا رسول الله! بينما نحن جلوس، إذ مرت عجوز من عجائز رهابينهم تحمل على رأسها قُلَّةً من ماء، فقام إليها فتىً من فتيانهم فوضع إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها فخرت على ركبتيها. فانكسرت قلتها، فلما ارتفعت، التفتت إليه فقالت: سوف تعلم، يا غُدر! إذا وضع الله الكرسي، وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون،
(1) رواه البخاري (4230، 4231).
(2)
متفق عليه، رواه البخاري (رقم 4230، 4231)، ومسلم (رقم 2502، 2503).