الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "هذه قريش قد ألقت إليكم بأفلاذ كبدها"؟ ونزل جيش الإِسلام بالعدوة الدنيا، ونزل جيش الكفر بالعدوة القصوى، ولا يعرف كل منهم ما وراء هذا اللقاء الرهيب.
عباد الله! العنصر الثاني: يوم الفرقان يوم التقى الجمعان
.
هذا اليوم الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل، وأعز الله فيه الإِسلام وأهله، وأذل فيه الكفر وأهله، يقول الله عز وجل:{يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)} [الأنفال: 41 - 44].
عباد الله! وبات الجيش المسلم ليلة الجمعة، ليلة السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة ببدرٍ يرتقب هجوم العدو الكافر في أي ساعةٍ، فطار النوم من عيون المسلمين، وخافت قلوبهم، فأرسل الله عليهم النعاس، فناموا تلك الليلة حتى احتلم بعضهم، فلما أصبحوا ولا ماء أنزل الله عليهم من السماء ماءً فكان على المشركين وبالاً شديداًَ منعهم من المتقدم، وكان على المسلمين طلاً طهرهم به وأذهب عنهم رجز الشيطان، ووطأ به الأرض، وصلَّب به الرمل، وثبت به الأقدام، ومهد به المنزل، وربط به على
قلوبهم قال تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)} [الأنفال: 11].
عباد الله! ووصف عليٌّ رضي الله عنه كيف بات المسلمون ليلة السابع عشر من رمضان ببدرٍ وأمامهم معسكر المشركين؟
قال: "لقد رأيتُنا يوم بدرٍ وما منا إلا نائم، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يصلى إلى شجرة ويدعو حتى أصبح .. "(1).
عباد الله! وفي الصباح صف النبي صلى الله عليه وسلم جنوده للقتال كما يحب الله عز وجل.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)} [الصف: 4].
وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "لا يقدمنَّ أحدٌ منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر القتال بنفسه.
قال عليٌّ رضي الله عنه: لقد رأيتُني يوم بدرٍ ونحن نلوذُ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو- أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً" (2).
فئة مؤمنة تقاتل من أجل لا إله إلا الله، وفئة كافرة جاءت لتقضي على الذين يقولون لا إله إلا الله.
(1) رواه أحمد في "المسند".
(2)
رواه أحمد في "المسند"(2/ 228).
عباد الله! بدأ القتال بمبارزاتٍ فردية، فقد تقدم عتبة بن ربيعة وتبعه ابنهُ الوليد وأخوه شيبة طالبين المبارزة، فانتُدب لهم شباب من الأنصار فرفضوا مبارزتهم، طالبين مبارزة بني قومهم، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم حمزة وعلياً وعبيدة بن الحارث بمبارزتهم.
وقد تمكن حمزة من قتل عتبة، ثم قتل عليٌ شيبة، وأما عبيدة فقد تصدى للوليد وجرح كل منهما صاحبه فعاونه عليٌ وحمزة فقتلوا الوليد واحتملا عبيدة إلى معسكر المسلمين" (1).
عباد الله! وقد أثرت نتيجة المبارزة في معسكر قريش وبدأوا بالهجوم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بنضح المشركين بالنبل إذا اقتربوا منهم، حرصاً على الإفادة من النبال بأقصى ما يُستطاع.
فقال صلى الله عليه وسلم "إذا أكثبوكم -يعني دنوا منكم- فارموهم واستبقوا نبلكمُ"(2).
ورمى النبي صلى الله عليه وسلم الحصى في وجوه المشركين وقال: "شاهت الوجوه".
قال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].
عن حكيم بن حزام قال: لما كان يوم بدر أُمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم، فأخذ كفاً من الحصى فاستقبلنا به فرمى بها وقال:"شاهت الوجوه".
فأنزل الله عز وجل: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (3).
عباد الله! وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "قوموا إلى جنةٍ عرضها السماوات
(1) صحيح أبي داود (2321).
(2)
رواه البخاري (رقم 2900).
(3)
قال الشيخ الألباني: حديث حسن، "فقه السيرة"(ص 228).
والأرض"، فقال عُمير بن الحُمام: يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض؟
قال: "نعم". فقال: بخ بخ.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما حملك على قولك بخ بخ"؟
قال: رجاءَ أن أكون من أهلها، فقال:"فأنت من أهلها".
فأخرج عميرٌ تمرات ليأكلها فجعل يأكلها، ثم قال: لئن أنا حييتُ حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة، ثم رمى بالتمرات، وأقبل على القوم فدخل في صفوفهم فقاتلهم رضي الله عنه حتى قُتل" (1).
عباد الله! حميَ الوطيس، واستدارت رحى الحرب، واشتد القتال، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعاء والابتهال، ومناشدة ربه عز وجل حتى سقط رداؤه عن منكبيه.
وها هو عمر رضي الله عنه يخبرنا الخبر فيقول: "لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألفٌ، وأصحابه ثلاثمائةٍ وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة، ثم مدّ يديه فجعل يهتف بربه -أي يصيحُ ويستغيث بالله بالدعاء- "اللهم أنجز لي ما وعدتني: اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تُهلك هذه العصابةُ -أي الجماعة من أهل الإِسلام- لا تُعبد في الأرض" فما زال يهتف بربه، مادّا يديه، مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءهُ فألقاه على منكبيه، ثم التزمهُ ورائه وقال: يا نبي الله! كذلك -أي كفاك- مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك.
(1) رواه مسلم (رقم 1901).
فأنزل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)} [الأنفال: 9 - 9] فأمده الله بالملائكة (1).
وقد خرج صلى الله عليه وسلم من العريش الذي بُني له وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)} [القمر: 45](2).
عباد الله! وتقدم المسلمون يقتلون المشركين، والملائكة تقاتل معهم حتى قال ابن عباس: بينما رجلٌ من المسلمين يشتدُّ في أثر رجل من المشركين إذ سمع ضربة بالسوط، وصوت فارس يقول: أقدم حيزوم، إذ نظر إلى المشرك أمامه خرَّ مستلقياً، فنظر إليه فإذا هو قد خُطم أنفه، وشق وجهه كضربة السوط، فجاء ذلك المسلم وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"ذلك من مدد السماء الثالثة"(3).
قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)} [الأنفال: 9 - 10]، وقال تعالى:{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)} [الأنفال: 12]
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عريشه وهو يقول: "يا أبا بكر، أبشر أتاك نصر
الله، هذا جبريل آخذٌ بعنان فرسه عليه آلة الحرب" (4).
(1)"شرح النووى على صحيح مسلم"(12/ 84 - 85).
(2)
رواه البخاري (رقم 4875).
(3)
رواه مسلم (1763/ 1383/ 3).
(4)
أخرجه ابن إسحاق كما في "الفتح"(7/ 313).