الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الخامسة والثلاثون: الدروس والعظات والعبر والفوائد التي تؤخذ من غزوة أحد
عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع اللقاء الخامس والثلاثين من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن الدروس والعظات والعبر والفوائد التي تؤخذ من غزوة أحد.
عباد الله! الفتح والنصر في المعارك من خصائص المسلمين فقط، وأما ما يناله الكفار من المسلمين في بعض المعارك، فإنما هو نصيب فقط، قدَّره الله عز وجل لحكمة يعلمها وهو الحكيم العلم.
ففي هذه الآية سمى الله -تعالى- ما يكون للمؤمنين فتحاً ونصراً، وسمى ما يكون للكافرين نصيباً.
عباد الله! والذي حدث في غزوة أحد كان نصراً عظيماً للمؤمنين، ويظهر ذلك من الجولة الأولى في المعركة؛ فقد حصد المسلمون رؤوس الكفار، وسقط لواء المشركين وولوا مدبرين، وتَبعَهُم المسلمون يقتلونهم ويجمعون الغنائم.
ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ما نُصِرَ النبي صلى الله عليه وسلم من موطن كما نُصِرَ يوم أحد": فلما أُنكِرَ عليه ذلك قال: "بيني وبين من أنكر؛ كتاب الله عز وجل إن الله يقول في يوم أحد: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} .
يقول ابن عباس: "والحسُّ القتل"(1).
وإنما دالت الدولة لَمَا عصوا الرسول صلى الله عليه وسلم وفشلوا وتنازعوا في الأمر، وكان ما كان لحكمة يعلمها الله.
ولذلك قال تعالى: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)} [آل عمران: 152]
عباد الله! والسؤال الذي يفرض نفسه علينا الآن:
كيف يكون الذي أصاب المسلمين من غزوة أحد نصراً عظيماً؟
الجواب: إن النصر كان للمسلمين في أول المعركة لا يقل عن النصر ببدر، ولما أصاب المسلمين ما أصابهم بسبب المخالفة التي وقدت من بعض الرماة، علَّم الله تبارك وتعالى المسلمين، وجعلهم يأخذون من غزوة أحد الدروس والعظات والعبر والفوائد التالية:
أولاً: تبين للمسلمين خطر النفاق والمنافقين على الإِسلام والمسلمين،
(1) صحيح: رواه الحاكم (2/ 256).
وظهر ذلك عندما رجع عبد الله بن أُبي ابن سلول زعيم المنافقين بثلث الجيش، قبل الوصول إلى جبل أحد.
عباد الله! وهذه هي أول فائدة من فوائد غزوة أحد، وهي تمييز المنافقين والفصلُ بينهم وبين المؤمنين الصادقين.
قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179].
عباد الله! بعد النصر العظيم الذي مَنَّ الله به على المؤمنين في غزوة بدرٍ الكبرى دخل في الإِسلام بعضُ الناس، ظاهرهم الإِسلام وباطنهم الكفر، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فاقتضت حكمة العليم الحكيم أن يمتحن المسلمين بما أصابهم يوم أحدٍ، حتى يميز الخبيث من الطيب، ويتبين الكاذب من الصادق.
قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت: 2 - 3]
عباد الله! فبعد غزوة أحد انقسم الناس إلى ثلاثة أقسام:
كافرين ظاهرهم الكفر وباطنهم الكفر، ومؤمنين ظاهرهم الإيمان وباطنهم الإيمان، ومنافقين ظاهرهم الإِسلام وباطنهم الكفر.
عباد الله! ولما كان المنافق أشد خطراً على الإِسلام والمسلمين من غيره، لأنه لا يَظهَرُ ولا يُعْرَفُ، فقد فضحهم الله في كتابه وحذر المؤمنين منهم.
فقال تعالى عن المنافقين: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4]
عباد الله! ولئن أفادت غزوة بدر في خذل الكافرين، فإن غزوة أحد أفادت مثلها في فضح المنافقين، وربَّ ضارة نافعة، وربما صحت الأجساد بالعلل.
عباد الله! تبين للمسلمين بعد غزوة أحد أن النصر يكون مع الصبر والاعتصام والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وأن الخذلان يكون مع الاستعجال والتفرق والتنازع والمعصية لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
عباد الله! بالصبر ننتصر على أعدائنا كما قال صلى الله عليه وسلم: "واعلم أن النصر مع الصبر" ولذلك أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين بالصبر وعدم الاستعجال.
قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} [آل عمران: 200].
وقال- صلى الله عليه وسلم: " .. والله ليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون".
فليتق الله دعاة الاستعجال، فقد جاء الإِسلام يأمر بالاتحاد والاعتصام! وينهي عن التفرق والتنازع والاختلاف.
قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} ، وقال تعالى:{وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)} [الروم: 31 - 32]
عباد الله! بالطاعة لله ولرسوله- صلى الله عليه وسلم ننتصر على أعدائنا، وبالمعاصي ننهزم، ولذلك جاء الإِسلام يأمر بالطاعة لله ولرسوله- صلى الله عليه وسلم، ويحذر من المعاصي لأن المعاصي سبب الخذلان.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)} [الأنفال: 45 - 46]، وقال تعالى:{إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)} [محمد: 7]، وقال تعالى:{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)} [آل عمران: 160]
ولذلك لما تعجب المسلمون مِنَ الذي أصابهم في غزوة أحد، أخبرهم الله عز وجل أن المخالفة التي وقعت من الرماة هي السبب، قال تعالى:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)} [آل عمران: 165].
عباد الله! بمخالفة واحدة وقعت من بعض الرماة في غزوة أحد؛ نزل ما نزل بالمسلمين، فما بالنا بالمخالفات الكثيرة التي تقع من الأمة في هذا الزمان.
فيا عباد الله! كونوا من الاستعجال على حذر، وكونوا من التنازع والفرقة على حذر، وكونوا من المعاصي والذنوب على حذر فإن ذلك من أسباب الخذلان.
ثالثاً: تبين للمسلمين بعد غزوة أحد، أن من سنة الله وحكمته في رسله وأوليائه وأحبابه، أن يُدالوا مرة، ويُدالُ عليهم أخرى، لكن تكون لهم العاقبة.
قال تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140].
ولذلك كان الذي أصاب المسلمين في غزوة أحد؛ علم من أعلام النبوة، ودليل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم في قوله للناس إني رسول الله إليكم جميعاً، ولذلك لما بَعَثَ النبي صلى الله عليه وسلم كتابه إلى هرقل ملك الروم يدعوه فيه إلى الإِسلام يقول له:"أسلم تسلم".
قال هرقل لحاشيته: ائتوني بمن بأرضي من العرب، فجيء بأبي سفيان ومعه نفر من المشركين
فسأله هرقل عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من ضمن الأسئلة:
هل قاتلتموه؟ قال أبو سفيان: نعم.
قال هرقل: كيف كانت الحرب بينكم وبينه؟
قال أبو سفيان: سجال، يُدال علينا مرة، ونُدال عليه الآخرة.
فقال هرقل: تلك سنة الله مع أنبيائه ثم تكون العاقبة لهم" (1).
(1) رواه البخاري (رقم 7).
ولذلك قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)} [آل عمران: 137].
رابعاً: تبين للمسلمين أنه إذا مات الرسول بقيت الرسالة، وإذا مات الداعية بقيت الدعوة، وأنه يجب على المسلم أن يموت على الإِسلام والتوحيد، سواء مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بقي.
ولذلك قال ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد"(ص 224).
ومنها -أي من الحكم والغايات المحمودة التي كانت في غزوة أحد-:
أن وقعة أحد كانت مقدمةً وإرهاصاً بين يدي موت رسول الله- صلى الله عليه وسلم، فثبتهم، ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قتل، بل الواجب له عليهم أن يثبتوا على دينه وتوحيده ويموتوا عليه، أو يقتلوا فإنهم إنما يعبدون ربَّ محمَّد صلى الله عليه وسلم وهو حيٌ لا يموت.
فلو مات محمَّد صلى الله عليه وسلم أو قتل لا ينبغي لهم أن يصرفهم ذلك عن دينه وما جاء به، فكل نفس ذائقة الموت، وما بُعث محمَّد صلى الله عليه وسلم ليخلد لا هو ولا هم، بل ليموتوا على الإِسلام والتوحيد، فإن الموت لا بد منه سواء مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بقي، ولهذا وبخهم على رجوع من رجع منهم عن دينه لما صرخ الشيطان: إن محمداً قد قتل.
فقال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)} [آل عمران: 144].
خامساً: تحصَّل كثير من المسلمين في غزوة أحد على الشهادة في سبيل الله والشهادة في سبيل الله درجة عالية يتطلع إليها كل مسلم ومسلمةٍ،