الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الحادية والخمسون: وفاةُ الرسول صلى الله عليه وسلم
-
عباد الله! وموعدُنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع اللقاء الحادي والخمسين من سيرة حِبيبِ ربِّ العالمين محمدٍ صلى الله عليه وسلم النبي الأمين، وهذا هو اللقاءُ الأخير، وحديثنُا في هذا اللقاءِ سيكونُ عن وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عباد الله! رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الذي قال الله فيه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} .
والذي أخرجنا الله به من الظلمات إلى النور.
والذي ختم اللهُ به الأنبياءَ والمرسلين، فلا نبي بعده ولا رسول بعده.
والذي قال الله له {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45)} أو قال الله له: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} فنشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهدَ في سبيل دينه حتى أتاهُ اليقين، وترك أمته على المحجةِ البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك أو ضالُ.
عباد الله! رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الذي قال الله له: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)} [الزمر: 30]
والذي قال الله له: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)} [الأنبياء: 34 - 35].
وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} [الرحمن:26 - 27]، وقال تعالى:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)} .
رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال له جبريل عليه السلام: "يا محمَّد عش ما شئت فإنك ميت وأحبب من شئت فإنك مفارقه"(1).
عباد الله! بعد أن فتح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مكة وأرسل إلى ملوك ورؤساء الدول الكبرى يدعوهم إلى الإِسلام، وبدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجاً؛ أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إلى اقتراب أجله، وُيعرضُ بقرب أجله.
فقبل حجة الوداع، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع معاذ بن جبل رضي الله عنه يودعه ويوصيه عندما بعثه إلا اليمن، ومعاذ راكب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته، فلما فرغ صلى الله عليه وسلم قال:"يا معاذ، إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري".
فبكى معاذ جشعاً لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم التفت صلى الله عليه وسلم فأقبل بوجهه نحو المدينة، فقال:"إن أولى الناس بي المتقون؛ من كانوا وحيث كانوا"(2).
ووقع ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن معاذاً أقام باليمن حتى كانت حجة الوداع، ثم كانت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، ومعاذ باليمن.
وكان صلى الله عليه وسلم يعتكف كل سنة عشراً في شهر رمضان، فاعتكف في السنة الأخيرة عشرين ليلة، وكان جبريل يعارضه القرآن مرة في شهر رمضان،
(1)"الصحيحة"(رقم 831)
(2)
قال الشيخ الألباني: صحيح رواه أحمد (5/ 235).
فعارضه في السنة الأخيرة مرتين.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً (1).
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة رضي الله عنها: "أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة مرة، وإنه قد عارضني به العام مرتين، ولا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري"(2).
عباد الله! وفي حجة الوداع، ودع النبي صلى الله عليه وسلم أمته وأصحابه.
في يوم النحر، وعند جمرة العقبة قال صلى الله عليه وسلم:"لتأخذوا مناسككم -أي: خذوا عني مناسككم- فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه"(3).
وعلى عرفة نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
فلما تلاها صلى الله عليه وسلم على أصحابه بكى عمرُ رضي الله عنه فقيل له: ما يبكيك؟ فقال رضي الله عنه إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان (4).
وفي ثاني أيام التشريق نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [سورة النصر]
(1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 2033)، ومسلم (رقم 1173).
(2)
رواه البخاري (رقم 6285)، ومسلم (رقم 2450).
(3)
رواه مسلم (رقم 1297).
(4)
"تفسير الطبري"(6/ 80)، "البداية والنهاية"(5/ 79).
فلما سأل عمر رضي الله عنه ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه السورة.
قال ابن عباس: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم له، قال:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2)} وذلك علامة أجلك {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} .
فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول (1).
عباد الله! ودعا النبي- صلى الله عليه وسلم فاطمة رضي الله عنها فسارها بشيء فبكت، ثم دعاها فسارها بشيء فضحكت. فلما سألتها عائشة رضي الله عنها قالت: سارّني في الأول فقال لي: "إن جبريل كان يُعارضُني بالقرآن كل سنة مرةً، وقد عارضني في هذا العام مرتين، ولا أرى ذلك إلا اقتراب أجلي، فاتقي الله واصبري، فنعم السلف أنا لك" فبكيت.
ثم سارني فقال: "يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة؟ " فضحكت (2).
عباد الله! وخرج صلى الله عليه وسلم يوماً إلى أحد فصلى على الشهداء كالمودع للأحياء والأموات، ثم انصرف إلى المنبر فقال: "إني فرط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض أو مفاتيح الأرض.
وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن
(1) رواه البخاري (رقم 4970).
(2)
متفق عليه، مضى قريباً.
تنافسوا فيها" (1).
عباد الله! هكذا أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير ويعرض باقتراب أجله، والناس يشعرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يودعهم.
عباد الله! وعاد النبي صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع إلى المدينة، وهناك في المدينة بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يشتكي من صداع شديد في رأسه.
تقول عائشة رضي الله عنها رجع النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم من جنازة من البقيع فوجدني، وأنا أجد صداعا وأنا أقول، وارأساه، فقال:"بل أنا يا عائشة وارأساه".
ثم قال- صلى الله عليه وسلم لها: "وما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك، وصليت عليك ودفنتك".
فقالت رضي الله عنها له: كأني بك والله لو فعلت ذلك، لرجعت إلى بيتي فعرست فيه ببعض نسائك.
تقول رضي الله عنها: "فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بدئ في وجعه الذي مات فيه"(2).
عباد الله! "اشتد الوجع برسول الله- صلى الله عليه وسلم، فطلب من زوجاته أن يمرض في بيت عائشة أم المؤمنين فأذنَّ له، فخرج بين رجلين من أهل بيته حتى دخل بيت عائشة"(3).
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: "يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر،
(1) رواه البخاري (رقم 1344).
(2)
صحيح ابن ماجة (1197).
(3)
رواه البخاري (رقم 2588).
فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري" (1) -من ذلك السم-.
وكان صلى الله عليه وسلم يخرج إلى المسجد يصلي بالناس، فلما اشتد به الوجع قال:"مروا أبا بكر فليصل بالناس".
فقالت عائشة: إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل بالناس. فقال صلى الله عليه وسلم:"مروا أبا بكر فليصل بالناس".
تقول عائشة: فقلت لحفصة: قولي له: إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل بالناس. ففعلت حفصة.
فقال صلى الله عليه وسلم: "مه! إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس".
فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيراً (2).
وعاودت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا يتشاءم الناس بأبيها (3).
عباد الله! أبو بكر رضي الله عنه يصلي بالناس، وفي يوم وجد النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة فخوج يهادي بين رجلين، ورجلاه تخطان في الأرض من الوجع، فأراد أبو بكر أن يتأخر فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن مكانك، ثم أُتي به حتى جلس إلى جنبه، فكان صلى الله عليه وسلم يصلي، وأبو بكر يصلي بصلاته، والناس يصلون بصلاة أبي بكر (4).
(1) رواه البخاري (رقم 4428).
(2)
متفق عليه، رواه البخاري (رقم 679)، ومسلم (رقم 418).
(3)
متفق عليه، رواه البخاري (رقم 4445)، ومسلم (رقم 418).
(4)
متفق عليه، رواه البخاري (رقم 198)، ومسلم (رقم 664).
عباد الله! فلما كان يوم الخميس قبل خمسة أيام من وفاته صلى الله عليه وسلم؛ اشتد الوجع برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للمسلمين حوله: "ائتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده" فتنازعوا، وما ينبغي عند نبي تنازع .. فقال لهم "دعوني فالذي أنا فيه خير"(1).
ثم أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج للخطبة. فقال لأهله: "أهريقوا علي من سبع قرب لم تُحَلُ أوكيتها، لعلي أعهد إلى الناس".
تقول عائشة رضي الله عنها "فأجلسناه في مخصب لحفصة، ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب، حتى طفق يشير إلينا بيده" أن قد فعلتن، تقول رضي الله عنها ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم (2).
يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه "خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال: "إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله".
قال أبو سعيد: "فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خير، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المُخَيرُ، وكان أبو بكر أعلمنا".
فقال صلى الله عليه وسلم: "إن أمنَّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإِسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر"(3).
عباد الله! اشتد الوجع برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ يوصي أمته وأصحابه في
(1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 4432)، ومسلم (رقم 1637).
(2)
رواه البخاري (رقم 198).
(3)
متفق عليه، رواه البخاري (رقم 466)، ومسلم (رقم 2382).
الأيام الأخيرة من عمره بما يلي:
أولاً: أوصى أمته بإخراج المشركين في جزيرة العرب، فقال صلى الله عليه وسلم قبل موته بخمس:"أوصيكم بثلاث ثم ذكر منها: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب"(1).
ثانياً: وأوصى أن تغلق الأبواب المفتوحة على المسجد إلا باب أبي بكر فقال- صلى الله عليه وسلم: "لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر" وهذه من الإشارات لاستخلافه رضي الله عنه (2).
ثالثاً: وأوصى صلى الله عليه وسلم بالأنصار خيراً.
يقول أنس رضي الله عنه: "مر أبو بكر والعباس رضي الله عنهما بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون فقال: ما يُبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فينا فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك. قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاشية برد، فصعد المنبر- ولم يصعده بعد ذلك اليوم- فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي -أي: موضع سري وأمانتي-، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم" (3).
رابعاً: وأوصى صلى الله عليه وسلم بتعظيم الرب عز وجل في الركوع، والاجتهاد في الدعاء في السجود يقول: ابن عباس رضي الله عنهما: كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر فقال: "أيها الناس، إنه لم يبق
(1) رواه البخاري (رقم 3168).
(2)
مضى قريباً.
(3)
رواه البخاري (رقم 3799).
من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، ألا وأني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمن -أي: حقيق وجدير- أن يستجاب لكم" (1).
خامساً: أوصى صلى الله عليه وسلم أمته بالصلاة
يقول علي رضي الله عنه: كان آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم "الصلاة، الصلاة، واتقوا الله فيما ملكت أيمانكم"(2).
سادساً: ووصى صلى الله عليه وسلم أمته أن تحسن الظن بالله.
يقول جابر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: "لا يموت أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل"(3).
سابعاً: نهى صلى الله عليه وسلم أمته عن بناء المساجد على القبور، تقول عائشة وابن عباس رضي الله عنهم: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة جعل يلقى على وجهه طرف خميصة، فإذا اغتم كشفها عن وجهه وهو يقول:"لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
تقول عائشة: "يُحَذّرُ مثل الذي صنعوا"(4).
عباد الله! اشتد الوجع برسول الله صلى الله عليه وسلم، وانقطع عن أصحابه بقية يوم
(1) رواه مسلم (رقم 479).
(2)
انظر "إرواء الغليل"(رقم 2178).
(3)
رواه مسلم (رقم 2877).
(4)
رواه البخاري (رقم 4441).
الخميس، والجمعة والسبت والأحد، وبينما هم في صلاة الفجر من يوم الاثنين، وأبو بكر يصلي بالناس، لم يفجأهم إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد كشف ستر حجرة عائشة؛ فنظر إليهم وهم صفوف في الصلاة ثم ابتسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة.
يقول أنس رضي الله عنه: وهم المسلمون أن يفتنوا في صلاتهم فرحاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم، ثم دخل- صلى الله عليه وسلم الحجرة وأرخى الستر، ثم مات صلى الله عليه وسلم ضحى ذلك اليوم الاثنين (1).
عباد الله! وفي يوم الاثنين اشتد المرض برسول الله صلى الله عليه وسلم
تقول عائشة رضي الله عنها: لا أكره شدة الموت لأحد أبداً بعد ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم (2).
ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: "دخلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، فقلت: يا رسول الله، إنك توعك وعكاً شديداً".
قال- صلى الله عليه وسلم: أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم.
قلت: ذلك أن لك أجرين؟
قال صلى الله عليه وسلم: أجل، ذلك كذلك.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يصيبه أذى، شوكة فما فوقها، إلا كفر الله بها
(1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 680)، ومسلم (رقم 419).
(2)
رواه البخاري (رقم 4445).
سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها" (1).
وتقول عائشة رضي الله عنها "لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: وجع الموت- طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه، ويقول: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" تقول عائشة رضي الله عنها: لولا ذلك لأبرز قبره، خشي أن يتخذ مسجداً (2).
ويقول أنس رضي الله عنه لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه الكرب فقالت فاطمة- رضي الله عنها "واكرب ابتاه! قال صلى الله عليه وسلم: "ليست على أبيك كرب بعد اليوم" (3).
وتقول عائشة رضي الله عنها "إن من نعم الله علي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي ويومي، وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقى وريقه عند موته.
تقول رضي الله عنها: دخل علي عبد الرحمن بن أبي بكر وبيده سواك - وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم - فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم.
فتناوله فاشتد عليه، فقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم. فلينته فأمرّه -أي استاك به- تقول رضي الله عنها "وبين يديه ركوة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء، فيمسح بها وجهه ويقول: لا إله إلا الله، إن للموت سكرات"، ثم نصب يده فجعل يقول:"في الرفيق الأعلى"، حتى قبض
(1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 5647)، ومسلم (رقم 2571).
(2)
متفق عليه، رواه البخاري (رقم 1330)، ومسلم (رقم 529).
(3)
رواه البخاري (رقم 4462).
فمالت يده (1).
يقول أنس رضي الله عنه، لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت فاطمة رضي الله عنها:
يا أبتاه! أجاب رباً دعاه.
يا أبتاه! جنة الفردوس مأواه.
يا أبتاه! إلى جبريل ننعاه" (2).
عباد الله! لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعت عائشة رضي الله عنها رأسه على وسادة، وسجته -أي: غطته- ببردة.
عباد الله! عائشة تبكي، وفاطمة تبكي، والكل يبكي على فراق رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخبر ينتشر هنا وهناك، فمن المسلمين من يقول: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يقول: لا ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الفاروق عمر رضي الله عنه يتوعد من قال مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتل والقطع.
عباد الله! وصل الخبر إلى أبي بكر رضي الله عنه، فجاء على فرسه، ثم دخل فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله وقال: بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً، والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبداً، ثم خرج وعمر يكلم الناس، فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: ألا من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)} [الزمر: 30].
(1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 4450)، ومسلم (رقم 2443).
(2)
رواه البخاري (رقم 4462).