الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العنصر الثالث: ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم بعد انتهاء الغزوة.
العنصر الأول: أحد جبل يحبنا ونحبه:
عباد الله! جبل أحد هو الجبل الذي وقعت عنده غزوة أُحد، وهو جبل يقع بالقرب من المدينة.
وهو الجبل الذي دَفَنَ عنده النّبي صلى الله عليه وسلم من خيرة أصحابه، كعمه حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير، وأنس بن النضر وغيرهما رضي الله عنهم جميعاً-.
وهو الجبل الذي ذهب إليه النبي- صلى الله عليه وسلم وصلى على شهداء أحد قبل موته كالمودع للأحياء والأموات.
وهو الجبل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "أحدٌ جبل يحبنا ونحبه".
وهو الجبل الذي التقى عنده جيش الكفر وجيش الإيمان {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} [آل عمران:13].
عباد الله! بعد أن أُصيبتْ قريش في عظمائها وأئمة الكفر فيها يوم بدر، وقلوبهم تغلي حقداً وحنقاً وغيظاً على المسلمين والإِسلام، عبأت قريش قُوَّتها، واستعانت بحلفائها، وخرجت في ثلاثة آلاف مقاتل يقودها أبو سفيان بن حرب لتحقيق الأهداف التالية:
أولاً: استعادة مكانتها عند العرب بعد أن فقدتها بهزيمتها في غزوة بدر.
ثانياً: الثأر لقتلاها ببدرٍ.
ثالثاً: تأمين طريق التجارة من مكة إلى الشام.
عباد الله! وصلت الأخبار إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقدوم هذا الجيش لغزو المدينة،
ورأى النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا -ورؤيا الأنبياء حق وهي من الوحي- حكاها لأصحابه فقال: "رأيتُ في رؤياي أني هززت سيفاً فانقطع صدره، فإذا هو ما أُصيب من المؤمنين يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد كأحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين، ورأيت فيها بقراً -والله خيرٌ - فإذا هم النفر من المؤمنين يوم أحد، وإذا الخير ما جاء الله به من الخير بعد .. "(1).
عباد الله! فلما شاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أشار عليه الشباب ومن حُرِمَ من شهود بدرٍ وغلبهُ الشوق إلى الجهاد وملاقاة العدو بالخروج إليهم -وهم الذين يتشوقون إلى الاستشهاد-، وكان من رأيه- صلى الله عليه وسلم ورأي الشيوخ وكذلك عبد الله بن أُبي ابن سلول المكوث في المدينة، ومقاتلتهم إذا دخلوها من الأزقة ومن أسطح البيوت.
قال صلى الله عليه وسلم: "رأيت كأني في درع حصينة ورأيت بقراً منحرةً، فأوَّلت أن الدرع الحصينة المدينة، وأن البقر هو والله خير".
ثم قال لأصحابه: "لو أنا أقمنا بالمدينة، فإذا دخلوا علينا فيها قاتلناهم فقالوا: يا رسول الله، والله ما دُخِلَ علينا فيها في الجاهلية، فكيف يُدْخَلُ علينا فيها في الإِسلام؟ ".
فقال: "شأنكم".
ثم دخل صلى الله عليه وسلم فلبس لأمتهُ -أي لباس القتال- فقالت الأنصار: رددنا
على رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيه، فجاءوا فقالوا: يا نبي الله شأنُكَ إذاً -أي الرأيُ
(1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 3622)، ومسلم (رقم 2272).
رأيك فاصنع ما أراك الله-
فقال- صلى الله عليه وسلم لهم: "إنه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل"(1).
عباد الله! خرج النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلاة العصر من يوم الجمعة؛ في ألف مقاتل من المدينة إلى جبل أحد، وفي الطريق وبالقرب من جبل أحد انسحب من الجيش عبد الله بن أُبي ابن سلول رأس النفاق بثلث الجيش -ثلاثمائة مقاتل- وأراد بذلك أن يحطم معنويات الجيش- مدعياً أنهُ لن يقع قتال مع المشركين!! معترضاً على قرار الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج لقوله:(أطاعهم وعصاني) فكذب الله ابنَ سلول وأنزل الله على رسوله {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)} [آل عمران: 166 - 167]
عباد الله! وكانت هذه أول فائدة من فوائد غزوة أحد، وهي تمييز المنافقين، والفصل بينهم وبين المؤمنين الصادقين.
قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179]
عباد الله! وقد ظهر في أوساط الصحابة رأيان في المنافقين الذين انسحبوا من الجيش الرأي الأول: قتل المنافقين الذين خذلوا المسلمين بعودتهم
(1) رواه أحمد (3/ 351)، وصححه الألباني.
وانشقاقهم عن الجيش.
الرأي الثاني: لا يرى قتلهم، وقد بينَّ الله عز وجل في كتابه موقف الفريقين في قوله تعالى:
عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة أُحد رجع ناسٌ ممن خرج معه، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرقتين، فرقة تقول: نقاتلهم، وفرقة تقول لا نقاتلهم، فنزلت:{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} (1).
عباد الله! وقد أثر موقف المنافقين في نفوس طائفتين من المسلمين، ففكروا بالعودة إلى المدينة، ولكنهم غالبوا الضعف الذي ألم بهم، وانتصروا على أنفسهم بعد أن تولاهم الله تعالى، فدفع عنهم الوهن، فثبتوا مع المؤمنين وهما: بنو سلمة (من الخزرج) وبنو حارثة (من الأوس).
وقد أخبرنا ربنا -جل وعلا- في كتابه عن موقف الطائفتين.
فقال تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} [آل عمران: 122]
عن جابر رضي الله عنه قال: "فينا نزلت: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} نحن الطائفتان: بنو حارثة وبنو سلمة، وما نحب أنها لم تنزل لقوله تعالى:
(1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 1884)، ومسلم (رقم 2776).
{وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} (1).
عباد الله! ولما انسحب ابن سلول زعيم المنافقين، هو ومن على شاكلته بثلث الجيش تبعهم عبد الله بن حرام- والد جابر بن عبد الله- ينصحهم بالثبات ويؤنبهم على العودة، وبذكرهم بواجب الدفاع عن المدينة ضد المغيرين إذا لم يكن لهم إيمان بالله واليوم الآخر وثقة بالإِسلام ورسوله، فأبى ابن أُبي الاستماع إليه وفيه ومن انسحب معه نزلت الآية {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ .. } [آل عمران: 167]
عباد الله! وقبل أن يصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أُحد استعرض الجيش، فرد مَنْ ردَّ من الشباب لصغره عن سن البلوغ، وأجاز مَنْ أجاز وكان ممن ردهم عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
يقول ابن عمر رضي الله عنهما: "عرضني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد وأنا ابن أربع عشرة سنة لم يجزني، وعرضني يوم الخندق وأنا ابنُ خمس عشرة فأجازني"(2).
أين تربى هؤلاء؟! على عقيدة التوحيد وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عباد الله! ومضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم بجيش المسلمين وعددهم سبعمائة مجاهد فقط -أي ما يعادلُ ربع جيش الكفار تقريباً-
(1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 4051)، ومسلم (رقم 2505).
(2)
متفق عليه، رواه البخاري (رقم 2664)، ومسلم (رقم 1868).
ونزل صلى الله عليه وسلم بالجيش بالشعبِ بجبل أُحد، وجعل ظهر الجيش للجبل وعيَّن أميراً على الميمنة، وأميراً على الميسرة، وانتقى من مهرة الرماة خمسين رجلاً فعينهم للحراسة على الجبل، وأمَّر عليهم عبد الله بن جبير رضي الله عنه وأصدر صلى الله عليه وسلم أوامرهُ المشددة للرماة فقال:"احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نُقتل فلا تنصرونا، وأن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشرُكونا"(1).
وفي رواية قال لهم: "لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا"(2).
عباد الله! وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ينظم الصفوف ويحرضُ أصحابهُ على القتال، وينفث روح الحماسة والبسالة في أصحابه، فأخذ سيفاً وقال:"من يأخذ هذا السيف؟ ".
فبسطوا أيديهم كلٌّ يقول: أنا، أنا.
فقال صلى الله عليه وسلم: "من يأخذهُ بحقه؟ " فأحجم القوم.
فقال أبو دجانة: "أنا آخذهُ بحقه يا رسول الله، فأخذهُ ففلق به هام المشركين"(3).
قال ابن إسحاق: كان أبو دجانة رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب، وكانت له عصابة حمراء إذا اعتصب بها عُلِمَ أنه سيقاتل حتى الموت.
وقام رجلٌ فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قُتلت فأين أنا؟
(1) صحيح رواه الحاكم (2/ 296).
(2)
قطعة من حديث رواه البخاري (رقم 4043).
(3)
رواه مسلم (رقم 2470).