الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عباد الله! وبالفعل بدأ الكفار -والكفر ملة واحدة- في التحرش بالمسلمين ولكن لا عن طريق التصريح والمواجهة، بل عن طريق الحيلة والمكر والخديعة والغدر ويظهر ذلك جلياً من ماساة يوم الرجيع، ومأساة بئر معونة.
عباد الله! تعالوا بنا لنستمع إلى ما حدث في يوم الرجيع، وما حدث عند بئر معونة، ليتبين للجميع أن الغدر والمكر والخيانة من شيم وأخلاق الكفار من قديم الزمان وحتى يومنا هذا، وليست من شيم المسلمين.
أولاً: مأساة يوم الرجيع
.
والرجيع هو: اسم للمكان الذي وقعت عنده المأساة، وتتلخص هذه المأساة فيما يلي:
أرسلت قبيلتان من القبائل العربية المجاورة للمدينة -عضل والقارة- وافدهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره أن بهم إسلاماً، وأنهم يريدون أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم من يفقههم في الدين، ويعلمهم القرآن وأحكام الإِسلام، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على تبليغ دين الله عز وجل ونشر الإِسلام وإظهاره استجابة لأمر ربه {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ، فقد استجاب لهم صلى الله عليه وسلم وبعث لهم عشرة من أصحابه وأمَّرَ عليهم عاصم بن ثابت رضي الله عنه.
فلما وصل الوفد إلى مكان يسمى الرجيع بين عسفان ومكة، أغار عليهم بنو لحيان (من هذيل) وهم قريب من مائتي مقاتل، فأحاطوا بهم وقد لجأ الوفد من الصحابة إلى مكان مرتفع.
قال المشركون للوفد: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلاً فقال عاصم -وهو أميرهم-: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم
أَخبر عنَّا نبيك، فاستجاب الله لعاصم فأخبر رسوله خبره، فأخبر أصحابه بذلك يوم أصيبوا".
وفي رواية: "فقال عاصم: اللهم إني أحمي لك اليوم دينك فاحمي لي لحمي"(1).
فقاتلوهم حتى قَتَلوا عاصماً في سبعة نفر بالنبل، وبقي خُبيب بن عدي وزرر بن الدثنة، وعبد الله بن طارق.
عباد الله! ولما قَتَلَ المشركون عاصماً أرادوا أن يأخذوا رأسه لإمرأة من المشركين نذرت؛ إن قدرت على رأس عاصم لتشربن فيها الخمر؛ لأن عاصماً رضي الله عنه كان قد قتل ابنيها يوم أحد، فأرسل الله تعالى النحل والدبابير فأظلته فحمته منهم فلم يقدروا منه على شيء.
وكان عاصم رضي الله عنه قد أعطى الله تعالى عهداً أن لا يمسه مشرك، ولا يمس مشركاً أبداً، فوفَّى الله تبارك وتعالى له.
فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لما بلغه خبره: يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما يحفظه في حياته؟
عباد الله! وبقي من الوفد خبيب وزيد وعبد الله، فدعاهم المشركون إلى النزول وأعطوهم العهد والمثياق ألا يقتلوهم فنزلوا.
فلما استمكن المشركون من الصحابة الثلاثة- ربطوهم بالحبال- فقال عبد الله بن طارق: هذا أول الغدر وأبى أن يسير معهم فجروه وعالجوه على أن يسير معهم فلم يفعل فقتلوه، وانطلق المشركون بخبيب وزيد فباعوهما بمكة.
(1) انظر "فتح الباري".
فأما خبيب فاشتراه بنو الحارث بن عامر ليقتلوه بالحارث بن عامر الذي كان خبيب قد قتله يوم بدر.
فمكث خبيب أسيراً حتى إذا أجمعوا قتله، استعار موسى من بعض بنات الحارث ليستحدَّ به فأعارته- الله أكبر! ما هذا يا خبيب غداً ستقتل وتستعير هذا الموسى ليحلق عانته تطبيقاً لسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم، أين تربى هؤلاء؟! حرص على السنة في آخر لحظة من حياته.
قالت: فغفلت عن صبيٍّ لي فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه فلما رأيته فزعت فزعةً عرف ذلك مني وفي يده الموسى فقال -أي خبيب- أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك -إن شاء الله تعالى- قالت: ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ ثمرة، وإنه لموثق في الحديد وما كان إلا رزق رزقه الله- إنها الكرامة يكرم بها ربنا؟ من يشاء من عباده-
قالت: فلما أرادوا أن يقتلوه خرجوا به من الحرم إلى الحل.
فلما عزموا على قتله قال لهم: دعوني أُصلي ركعتين، فتركوه فصلى ركعتين، فلما انصرف قال لهم: أما والله لولا أن تروا أن ما بي جزع من الموت لزدت في الصلاة، فكان أول من سنّ الصلاة عند القتل، ثم قال: اللهم أحصهم عدداً ثم أنشأ يقول:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً
…
على أي جنب كان في الله مصرعي
وذاك في ذات الإله وإن يشأ
…
يبارك على أوصالِ شلو ممزع (1)
(1) رواه البخاري (رقم 7402).