الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال صلى الله عليه وسلم: "في الجنة" فألقى الرجل تمرات كانت في يده ثم قاتل حتى
قُتِلَ رضي الله عنه (1).
عباد الله! وعند جبل أحد تعبَأت قريش للقتال، وهم في ثلاثة آلاف وفيهم مائتا فارس، فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل.
العنصر الثاني: يوم التقى الجمعان
عباد الله! وهذا هو يوم السبت، حيث التقى فيه جيش الإِسلام الذي خرج من أجل- لا إله إلا الله-، مع جيش الكفر الذي خرج ليقتل مَنْ يقول لا إله إلا الله، قال تعالى في كتابه عن هذا اليوم:
وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 166]
عباد الله! وتقارب الجمعان، وتدانت الفئتان، واندلعت نيران المعركة، واشتد القتال بين الفريقين في كل نقطة من نقاط الميدان، وكان ثقل المعركة يدور حول لواء المشركين، فتقدم أَسدُ اللهِ حمزةُ إلى حامل لواء المشركين فقتله، فلما سقط اللواء خلفه أخوه في رفعه، فقتله حمزة فتتابع تسعة رهطٍ على رفع راية المشركين فقتلهم المسلمون، وسقط لواء المشركين فلم يرفع. وتقدم أبو دجانة نحو المشركين بسيفه الذي أخذه من النبي صلى الله عليه وسلم بحقه،
(1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 4046)، ومسلم (رقم 1899).
فأعمل فيهم سيفه -أي حصد رؤوس الكفار بهذا السيف-، وتقدم حنظلة رضي الله عنه حتى انتهى إلى قائد المشركين أبي سفيان فرفع سيفه عليه، فبينما هو فوق رأسه رأى رجلٌ من المشركين المشهد فقتل حنظلة من وراءه- لحكمة يريدها الله، فقد أسلم أبو سفيان بعد ذلك- ورأى النبي صلى الله عليه وسلم الملائكة تُغَسِّلُ حنظلة فسأل عنه لماذا تغسله الملائكة؟ والشهداء لا يغسلون؟ فأُخبر أنه خرج إلى الجهاد جنباً -أي كان عريساً ينام مع زوجته- فرأى إن اغتسل تأخر عن الخروج فبادر بالخروج جنباً، وقتل شهيداً فغسلته الملائكة بين السماء والأرض (1).
عباد الله! حمزة رضي الله عنه يحصد بسيفه رؤوس الكفر هنا وهناك في أرض المعركة، لا يقف أمامه أحدٌ من المشركين.
قال قاتلُهُ وحشيٌ: رأيت حمزة بن عبد المطلب كالجمل الأورق، حاملٌ سيفهُ يقتل به المشركين ما يقوم له شيء.
قال وحشيٌ: وخرج إليه رجلٌ من المشركين فرفع حمزة سيفهُ عليه فما أخطأ رأسه.
وقال وحشىٌ: وانتهزت منه غفلة فرفعتُ حربتي حتى إذا رضيتُها دفعتُها إليه فوقعت في ثُنته -أي أحشائه- حتى خرجت من بين رجليه (2).
يقول ولما مات حمزة أخذت حربتي وذهبت بعيداً عنه، وليس لي بغيره حاجة، ومع ذلك مات حمزة أسد الله، والمسلمون يحصدون روؤس الكفر، ويقتلون الكفار حتى أنهم ولوا مدبرين.
(1) إسناده جيد: انظر كتاب "الجنائز"(ص 74) للألباني.
(2)
"سيرة ابن هشام"(3/ 76).
عباد الله! وحاول المشركون وقف هذا الزحف الهائل، والسيل العارم، ولكن دون جدوى فتفرقوا وولوا مدبرين، ولم يجترئ أحدٌ من المشركين أن يدنوا من لوائِهم الذي سقط على الأرض، وأخذ جيش الكفر في الانسحاب من أرض المعركة.
عباد الله! قال ابن إسحاق: ثم أنزل الله نصره على المسلمين وَصَدَقَهُم وَعْدَهُ فحسُوهم -أي قتلوهم- بالسيوف حتى إذا كشفوهم عن المعسكر وكانت الهزيمة لا شك فيها.
روى عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه قال: والله لقد رأيتُني أنظر إلى خدم -أي سوق- هند بنت عتبة وصواحبها مشمراتٍ هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير (1) ..
ويقول البراء بن عازب رضي الله عنه: "فلما لقيناهم هربوا، حتى رأيتُ النساء يشتددنَّ في الجبل يرفعن سوقهُن قد بدت خلاخيلهنَّ"(2).
ويقول ابن عباس رضي الله عنهما ما نُصِرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في موطنٍ كما نصر يوم أحد.
قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} .
يقول ابن عباس: والحسُ القتل (3).
عباد الله! وبينما كان الجيش الإِسلامي بعدده القليل يُسجل مرةً أخرى
(1)"سيرة ابن هشام"(2/ 77).
(2)
رواه البخاري (رقم 4043).
(3)
صحيح: رواه الحاكم (2/ 296).
نصراً ساحقاً على جيش الكفر، لم يكن أقل روعة من النصر الذي اكتسبه يوم بدر، وقعت من أغلبية الرُماة غلطةٌ فظيعةٌ قلبت الوضع تماماً، وأدت إلى إلحاق الخسائر الفادحة بالمسلمين وكادت تكون سبباً في مقتل النبي صلى الله عليه وسلم.
عباد الله! لما رأى الرُّماة أن المسلمين بدأوا يجمعون الغنائم التي خلَّفها المشركون، قال بعضهم لبعض: الغنيمة، الغنيمة، ظهر أصحابكم فماذا تنتظرون؟ أما قائدهم عبد الله بن جبير فقال لهم أنسيتم عهد رسول الله إليكم؛ ألا تبرحوا مكانكم حتى يأذن لكم؟ قالوا: إنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحمي ظهر الجيش حتى ينصرهم الله، وقد نصرهم الله، والله لنأتين القوم فنصيب معهم من الغنائم، فنزل أربعون من الرماة وبقى الأمير في عشرة فقط.
عباد الله! نظر خالدُ بن الوليد وقد ولَّي هارباً، فإذا الجبل قد انكشف ولم يبق عليه غيرُ عشرةٍ، فاستدار خالدٌ في نفر من فرسان المشركين وعلو الجبل -أي جبل الرماة- فقتلوا أمير الرماة ومن معه، ثم دخلوا في المسلمين من ورائهم فأصابوا منهم ما أصابوا، وصرخ عدو الله إبليس في المسلمين: أي عباد الله أُخراكم، أي جاءكم العدو من ورائكم، فرجعت أولاهم على أُخراهم فاجتلدت أولاهم مع أُخراهم -المسلمون أنفسهم- هؤلاء راجعون وهؤلاء متقدمون، فأُعميت الأبصار فلم يلتفتوا إلى شيء وجعلوا يضربون بعضهم بعضاً، ونظر حذيفة بن اليمان فرأى أباه المسلم والسيوف تعمل فيه فقال: أبي أبي، فما انحجزوا عنه حتى قتلوه.
ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أصحابه قد ولوا عنه مدبرين فجعل ينادي: إليَّ عباد الله، إليَّ عباد الله، فسمع المشركون صوته فعرفوه، فأقبلوا عليه يريدون قتله ولكن الله عصمه، فأنزل ملائكتهُ تقاتلُ دونه.
عباد الله! ومع ذلك خلُص بعض المشركين إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم نفسه وهو في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش.
فقال: "من يردهم عنا وهو رفيقي في الجنة؟ " فقاتلوا عنه واحداً واحداً حتى استشهد الأنصار السبعة" (1).
وأنزل الله تبارك وتعالى جبريل وميكائيل يدافعان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "رأيت يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيتهما قبلُ ولا بعد -يعني جبريل وميكائيل"(2).
وقام سعد بن أبي وقاص بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم يَرُدُّ المشركين عنه، ونثل رسول الله صلى الله عليه وسلم له كنانتهُ، وجمع له أبويه ولم يجمعهما لغيره وقال صلى الله عليه وسلم:
"ارم سعد، فداك أبي وأمي"(3)،
وترَّس أبو طلحة رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل يحمي السهام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتلقفها في صدره ونحره وظهره وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ارم أبا طلحة! ارم أبا طلحة".
وكلما مر رجل من المسلمين معه سهامٌ قال: "انثرها لأبي طلحة"، فيرمي أبو طلحة فينظر رسول الله صلى الله عليه وسلم أين وقع السهم، ويقول أبو طلحة له: دونك يا رسول الله، لا يصيبك سهم من سهامهم نحري دون نحرك" (4).
(1) رواه مسلم (رقم 1789).
(2)
متفق عليه، رواه البخاري (رقم 4054)، ومسلم (رقم 2306).
(3)
متفق عليه، رواه البخاري (رقم 4055)، ومسلم (رقم 2412).
(4)
متفق عليه، رواه البخاري (رقم 4064)، ومسلم (رقم 1811).
عباد الله! ورغم استبسال الصحابة رضي الله عنهم في الدفاع عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم فقد أُصيب إصابات كثيرة منها: كُسرت رُباعيته، وسال الدم من وجهه، ووقع صلى الله عليه وسلم في حفرةٍ ودخلت حلقة المغِفر في وجنتيه، وجعل- صلى الله عليه وسلم يقول:"كيف يُفلح قومٌ شجوا نبيهم وكسروا رباعيتهُ، وهو يدعوهم إلى الله".
فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)} [آل عمران: 128](1).
عباد الله! وقد أُشيع بين الصحابة رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قُتل، فاغتم المسلمون غماً على غمهم، وحزناً على حزنهم، وتولى بعضهم إلى المدينة وانطلقت طائفة فوق الجبل، واختلطت على الصحابة أحوالهم فما يدرون كيف يفعلون. كما قال تعالى:{فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ} وقال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)} [آل عمران: 144].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران: 155].
عباد الله! أخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم في الانسحاب بالبقية الباقية حوله حتى انتهى بهم إلى الشِّعب، وأرادت قريش أن تمنع هذا الانسحاب ولكن
(1) رواه مسلم (رقم 1791).
دون جدوى، فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه إلى الشعب الذي قد نزل فيه في أول القتال.
عباد الله! وقد يئس المشركون من إنهاء المعركة بنصر حاسم، وتعبوا من طولها ومن جلادة المسلمين فكفوا عن القتال.
فانتهزها أبو سفيان فرصة ليولي الأدبار هو الآخر، وخاف أن تكون الجولة الثالثة للمسلمين كما كانت لهم الجولة الأولى، إلا أنه وقف يشمت بالمسلمين، ويفخر بآلهتهم وجعل ينادي: أفي القوم محمَّد؟ فقال صلى الله عليه وسلم "لا تجيبوه" فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟
فقال صلى الله عليه وسلم "لا تجيبوه" قال: أفي القوم ابن الخطاب؟
فقال أبو سفيان لقد قتل هؤلاء- لتعلموا أنهم قد جاءوا للقضاء على محمَّد صلى الله عليه وسلم وعلى كبار الصحابة- فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت عدو الله لقد أبقى الله لك ما يخزيك.
فقال أبو سفيان: أُعلُ هبل.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أجيبوه" قالوا: ماذا نقول يا رسول الله؟
قال: قولوا: الله أعلى وأجل.
قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عُزى لكم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أجيبوه" فقالوا: ماذا نقول يا رسول الله؟
قال: قولوا: "الله مولانا ولا مولى لكم".
قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال، وتجدون مُثلةً لم آمر بها ولم تسؤني" - أي لم آمر الجيش أن يمثل بقتلاكم، ولكن لم يسؤني. وفي رواية