الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال العباس له: ويحك! النجاة النجاة! أدرك قومك.
فانطلق أبو سفيان ليأتي أهل مكة ليخبرهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخل مكة صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش! إن محمداً قد جاءكم بما لا قبل لكم به اليوم ولا طاقة.
فأقبلت إليه هندُ بنت عتبة زوجته تأخذ بشاربه؛ وتقول: اقتلوا الأحمق، قبَّحك الله من طليعة قوم.
فقال أبو سيفيان: يا معشر قريش لا تغرنكُم هذه ولا مقالُها، بادروا، من دخل دار أبي سفيان فهو آمنٌ.
قالوا: قاتلك الله وما تغني عنا دارك؟
قال لهم أبو سفيان: ومن أغلق عليه داره فهو آمنٌ، ومن دخل المسجد
فهو آمن، فتفرق الناس إلى المسجد وأغلق بعضهم عليه داره" (1).
العنصر الرابع: أحداث الفتح
عباد الله! قسم النبي صلى الله عليه وسلم جيش المسلمين إلى ميمنة وميسرة وقلب، وعين صلى الله عليه وسلم -قادة الجيش كلٌّ في مكانه.
ودخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً منتصراً، مؤيداً من الله- تبارك وتعالى وكان- صلى الله عليه وسلم خاشعاً لله، شاكراً لأنعمه، يقرأ سورة الفتح، ويرجِّع في قراءتها وهو على راحلته.
عباد الله! وكانت قريش قد وبَّشت أوباشاً -أي: جمعت جموعاً متفرقة من
(1)"البداية والنهاية"(4/ 290و291).
قبائل متفرقة لا أنساب بينهم- وقالت قريش: نقدِّم هؤلاء الأوباش -أي:
نجعلهم في المقدمة- فإن أصابوا -أي انتصروا- كنا معهم، وإن أُصيبوا -أي قُتلوا- أعطينا الذي سئلنا -أي: صالحنا المسلمين-
عباد الله! تعالوا بنا لنستمع إلى أبي هريرة رضي الله عنه وهو يخبرنا الخبر، يقول أبو هريرة: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فنظر فرآني فقال: "يا أبا هريرة نادِ في الأنصار لا يأتيني إلا أنصاري".
قال أبو هريرة: فاجتمعوا حوله، فأقاموا به.
فقال- صلى الله عليه وسلم: "أرأيتم إلى أوباش قريش، احصدوهم حصداً ولا تبقوا منهم أحداً، ووضع يمينه على شماله".
قال أبو هريرة: فانطلقنا فما شاء أحدٌ منا أن يقتل أحداً منهم إلا قتله، وما فعلوا بنا شيئاً.
فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله أُبيدت خضراء قُريش، لا قريش بعد اليوم.
ثم قال أبو سفيان: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه داره فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن دخل السجد فهو آمن، فردَّد رسول الله- صلى الله عليه وسلم مقولة أبي سفيان -تأكيداً وإقراراً لها- فقال- صلى الله عليه وسلم:"من دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن".
فلما سمع الأنصار مقولة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا فيما بينهم:
أمُّا الرجل -يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم - فأدركته رغبة في قريته -أي: مكة- وأسرُّوها في أنفسهم، والله سميعٌ عليمٌ فأوحى الله بها إلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
فقال صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الأنصار! قلتم أمَّا الرجل فأدركته رغبة في قريته؟ ".
قالوا: إي والله يا رسول الله، لقد قلنا هذا .. يعزُّ علينا أن تتركنا يا رسول الله وتقيم في أهلِك، فقال صلى الله عليه وسلم:"إن الله ورسوله يُصِّدقانكم ويعذرانكم"، ثم قال صلى الله عليه وسلم لهم:"كلا، ما أفعل الذي ظننتم، إني رسول الله هاجرتُ إلى الله وإليكم، المحيا محياكم، والممات مماتكم".
عباد الله! وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش المسلمين بتحطيم الأصنام، وتطهير البيت الحرام منها، وشارك صلى الله عليه وسلم في ذلك بيده، فكان يهوي بقوسه إليها فتتساقط على الأرض تحت الأقدام وهو يقرأ:{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)} {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)} وكانت الأصنام ستين وثلاث مئة.
عباد الله! ولطخ النبي صلى الله عليه وسلم صور إبراهيم وإسماعيل وإسحق وهم يستقسمون بالأزلام- وكانت هذه الصور داخل الكعبة- وقال صلى الله عليه وسلم: قاتلهم الله ما كان إبراهيم يستقسم بالأزلام.
ولم يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم الكعبة إلا بعد أن محيت هذه الصور منها، ثم دخل- صلى الله عليه وسلم الكعبة فصلى فيها ركعتين، ثمَّ استلم الرسول صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود، وطاف بالبيت سبعاً مهللاً مكبراً ذاكراً شاكراً، فلما فرغ صلى الله عليه وسلم من الطواف بالبيت سبعاً، رقي الصفا فاستقبل الكعبة وهلَّل وحمد الله، وأثنى عليه، ومجَّدهُ بما هو أهله ودعا بما شاء الله أن يدعو به، ولم يطف بين الصفا والمروة لأنه لم يكن محرماً بعمرة (1).
عبادة الله! وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يصعد فوق ظهر الكعبة، فيؤذن
(1) انظر "صحيح مسلم"(رقم 1330)، و"صحيح البخاري"(رقم 3352).
للصلاة، فصعد بلال وأذن للصلاة، وأنصت أهل مكة للنداء الجديد على آذانهم كأنهم في حُلمٍ، إن هذه الكلمات تقصف في الجو فتقذف بالرعب في أفئدة الشياطين، فلا يملكون أمام دويِّها إلا أن يولوا هاربين، أو يعودوا مؤمنين، الله أكبرُ الله أكبرُ، اللهُ أكبر اللهُ أكبر.
ذلك الصوت الذي كان يهمس يوماً تحت أسواط العذاب وهو يقول: أَحدٌ أَحدٌ، ها هو اليوم يُجلجل فوق كعبة الله قائلا: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، والكل خاشعٌ منصت خاضع.
ها هي الآن كلمة التوحيد هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، فها هي الأصنام تحت الأقدام، إنها لحظة والله يبكى فيها القلب فرحاً على هذا النصر العظيم.
عباد الله! ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع الناس على الإِسلام، فبايعهم على السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا؛ بايعهم رجالاً ونساءً صغاراً وكباراً. وما مست يدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط (1).
وقال صلى الله عليه وسلم -للنساء: "إني لا أصافح النساء، إنما قولي لامرأةٍ كقولي لمئة امرأة"(2).
عباد الله! فلما بايع النبي- صلى الله عليه وسلم -الرجال والنساء على الإِسلام والسمع والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم واستقر الأمن .. خرج صلى الله عليه وسلم فدخل بيت أمِّ هانئ بنت أبي طالب بنت عمه، فاغتسل صلى الله عليه وسلم ثم صلى ثماني ركعات شكراً لله تعالى على هذا الفتح.
(1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 5288)، ومسلم (رقم 1866).
(2)
"صحيح النسائي"(4192).