الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عباد الله! أما المنافقون فسلكوا مسالك شتى، فمنهم من اعتذر قبل الخروج وتعلل بالعلل الباطلة، قال تعالى عنهم:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)} التوبة: 49]. فأذن لهم النبي- صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى لنبيه- صلى الله عليه وسلم: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)} [التوبة: 43].
ثم قال الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)} [التوبة: 44 - 45].
ومنهم من أخذ يثبط هِمَمَ الناس، قائلين لهم: لا تنفروا في الحرِّ فأنزل الله تعالى فيهم: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)} [التوبة: 81 - 82].
العنصر الثالث: أحداث في الطريق، والوصول إلى تبوك
عباد الله! في يوم الخميس من شهر رجبٍ من السنة التاسعة للهجرة، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيش المسلمين من المدينة، قاصداً غزو الروم؛ واستخلف على المدينة محمَّد بن مسلمة رضي الله عنه وخلَّف علياً رضي الله عنه على أهله فناله المنافقون بألسنتهم، وقالوا: ما خلَّفه إلا استثقالاً له، وتخففاً منه فسمعها عليٌّ فأخذ سلاحه وانطلق يعدو خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتاه فقال: يا رسول الله! قال المنافقون: إنك خلَّفتني استثقالاً لي وتخفُّفاً مني فقال صلى الله عليه وسلم:
كذبوا، كذبوا، ارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون مِن موسى؛ إلا أنه لا نبي بعدي" (1).
عباد الله! وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثين ألف مقاتل عبر الصحراء إلى تبوك، وفي الطريق أصاب جيش المسلمين جوع شديد؛ لأنَّ الزمان كان زمان عُسرةٍ، فلما تجهَّزوا لم يتجهزوا بما يكفيهم، إنما تجهزوا بما وجدوا.
يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: لما كانت غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة، فقالوا: يا رسول الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا- جمع ناضحٍ وهي الإبل التي يسقى عليها- فنأكل وندَّهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"افعلوا"، فجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! لا تفعل، إنهم إن فعلوا نفذ الظهر -وهو ما يُحمل عليه من الإبل- ولا يجدون ما يركبون، ولكن يا رسول الله ادعهُم بفضل أزوادهم ثم ادع الله لهم بالبركة، فعسى الله أن يفعل.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: بساطٍ من الجلد- فبسطهُ، وأمرهم أن يأتوا بأزوادهم، فجعل الرجل يجيء بكفٍ من ذرة، وآخر يجيء بكف من تمر، وثالث يجيء بكسرة خبز حتى اجتمع على النَّطع شيءٌ قليل من الزاد، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ربَّه بالبركة في الطعام، فبارك الله لهم في الطعام فقال صلى الله عليه وسلم:"خذوا واملأوا أوعيتكم" فملأوا أوعيتهم حتى لم يبق في الجيش وعاء إلا مُلئ.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشهدُ أن لا إله إلا الله، وإني رسول الله، لا يلقى الله بها عبدٌ غير شاكٍ فيحجبُ عن الجنة"(2).
(1) أصل الحديث: متفق عليه، انظر "البداية والنهاية"(7/ 5).
(2)
رواه مسلم (رقم 27).
الله أكبر .. الله أكبر مَن الذي أطعم هذا الجيش في هذه الصحراء؟
إنه الله عز وجل ثم ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
عباد الله! وفي الطريق أصاب الجيش عطشٌ شديد، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: حدثنا عن غزوة العُسرة - وهي غزوة تبوك-، فقال عمر: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد -أي في حرٍّ شديد- فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطشٌ شديدٌ، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان أحدنا يذهب يلتمس الخلاء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ويضعُه على بطنه.
فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله! إن الله عودك في الدعاء خيراً فادع.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتحب ذلك يا أبا بكر؟ " قال: نعم.
فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه -أي: إلى السماء- فلم يرجعهما حتى قَالَت السماء -أي: تهيأت واستعدت للمطر- ثم سكبت الماء عليهم، فاستقوا وملأوا أوعيتهم قال عمر: ثم ذهبنا ننظر حدود المطر فرأينا أن المطر لم يتجاوز مكان الجيش (1).
الله أكبر .. الله أكبر مَن الذي سقى هذا الجيش في هذه الصحراء؟ إنه هو الله عز وجل ثم ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
ويقول معاذ بن جبل رضي الله عنه: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك،
(1) رواه البزار والطبراني في "الأوسط"، وقال الهيثمي: ورجال البزار ثقات "مجمع الزوائد"(6/ 194)، وقال الشيخ الألباني: حسن انظر "فقه السيرة"(ص 407).
فكنا نجمع الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً.
فلما كان ذات ليلةٍ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم ستأتون غداً عين تبوك- إن شاء الله تعالى- وإنكم لن تأتوها حتى يُضحي النهار، فمن جاءها منكم فلا يمسَّ من مائها شيئاً حتى آتي"، فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان، والعين تبضُّ بشيءٍ من ماء، فسألهما رسول الله- صلى الله عليه وسلم:"هل مسستما من مائها شيئاً؟ ".
قالا: نعم. فسبَّهُما، وقال لهما ما شاء اللهُ أن يقول، ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلاً قليلاً حتى اجتمع شيءٌ، وغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يديه ووجهه، ثم أعاده فيها، فجرت العين بماءٍ كثير، فاستقى الناسُ.
فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: "يا معاذ! يوشك إن طالت بك حياةٌ، أن ترى ما ها هنا قد ملئ جناناً"(1).
عباد الله! وفي الطريق إلى تبوك ضلَّت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رجل من المنافقين: أليس يزعم أنَّه نبي، ويخبركم عن السماء وهو لا يدري أين ناقته؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ رجلاً يقول: هذا محمَّد يخبركم أنه نبي، ويزعم أنه يخبركم بأمر السماء وهو لا يدري أين ناقته؟
وإني والله ما أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها، وهي في هذا الوادي في شعب كذا وكذا، قد حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوني بها" فذهبوا فجاؤوا بها (2).
عباد الله! وفي الطريق مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيش المسلمين على الحِجر
(1) رواه مسلم (رقم 706 بعد 10).
(2)
"زاد المعاد"(3/ 533).
- وهي ديار ثمود- فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن لا يدخلوا مساكنهم، وأن يُسرعوا الخطى، وأن يكونوا باكين، ونهاهم عن التزود من مياههم إلا بئر الناقة.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: لما مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بالحِجر قال: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم؛ أن يصيبكم ما أصابهم، إلا أن تكونوا باكين، ثم قنع رأسه صلى الله عليه وسلم، وأسرع السير حتى أجاز الوادي"(1).
وقال رضي الله عنه: "إن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -على الحجر- أرض ثمود- فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا، ويعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردُها الناقة"(2).
عباد الله! وهذا منهج نبويٌ كريم، في توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته والمسلمين إلى الاعتبار بديار ثمود، وأن يتذكروا بها غضبُ الله على الذين كذَّبوا رسوله، وأن لا يغفلوا عن مواطن العظة، ونهاهم عن الانتفاع بشيءٍ مما في ربوعها؛ حتى الماء، لكيلا تفوت بذلك العبرة، وتخف الموعظة بل أمرهم بالبكاء، وبالتباكي، تحقيقاً للتأثر بعذاب الله.
عباد الله! وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيش المسلمين إلى تبوك، وأخبر الجيش بأن ريحاً شديدة ستهُب، وأمرهم بأن يحتاطوا لأنفسهم ودوابهم، فلا يخرجوا حتى لا تؤذيهم، وليربطوا دوابهم حتى لا تُؤذى، وتحقق ما أخبر به رسول الله- صلى الله عليه وسلم، فهبت الريح الشديدة، وحملت من قام فيها إلى مكان بعيد. روى مسلم في "صحيحه" بإسناده إلى أبي حُميد قال: وانطلقنا حتى قدمنا تبوك، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: "ستهب عليكم الليلة ريحٌ شديدة فلا يقم منكم أحدٌ،
(1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 433)، ومسلم (رقم 2980).
(2)
متفق عليه، رواه البخاري (رقم 3379)، ومسلم (رقم 2981).
فمن كان له بعيرٌ فليشدَّ عقاله".
فهبت ريحٌ شديدة فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيء" (1).
عباد الله! وهناك في تبوك لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم وجيش المسلمين أي جُنديٍّ من جنود العدو، وألقى الله الرعب في قلوب الرومان على كثرتهم وقوة عدّتهم، فآثروا السلامة على الفناء، فجلسوا في أرضهم بالشام ولم يتحركوا أدنى مسافة للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم بتبوك بضعة عشر ليلة، لم يجد أدنى مقاومة وجاءت القبائل العربية المتنصرِّة حلفاء الرومان، فصالحت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجزية، وكتب لها كتاب صُلحٍ، ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك إلى المدينة سالماً غانماً.
عباد الله! وغزوة تبوك تشبه غزوة الأحزاب.
فغزوة الأحزاب لم يكن فيها قتال، وغزوة تبوك لم يكن فيها قتال. غزوة الأحزاب أولها شدة وبلاء، كما قال تعالى:{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)} [الأحزاب: 10 - 11].
وغزوة تبوك أولها أيضاً شدة وبلاءٌ وعُسرة، في الظَهر والمال والماء، كما قال تعالى:{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)} [التوبة: 117].
(1) رواه مسلم (رقم 706 بعد 10).