الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأحباب، وبقدر ما يتراكم على القلب من الخواطر والشواغل، ويدخل عليه من المساوئ والرذائل، يقع البعد عن الله، ويطرد العبد عن باب الله، فلا يدل على كمال العبد كثرة الأعمال، وإنما يدل على كماله علو الهمة والحال، وعلو الهمة على قدر اليقين، وقدر اليقين على قدر المعرفة، والمعرفة على قدر التوجه والتصفية، والتوجه تابع للقسمة الأزلية. وذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء.
ثم إن العلماء بأحكام الله إذا لم يحصل لهم الكشف عن ذات الله يكونون حجة على عباد الله. والعلماء بالله الذين حصل لهم الكشف عن ذات الله حتى حصل لهم الشهود والعيان يكونون حجة على العلماء بأحكام الله. فكما أن الأمة المحمدية تشهد على الناس، والرسول يشهد عليهم ويزكيهم، فكذلك العلماء يشهدون على الناس، والأولياء يشهدون على العلماء، فيزكون من يستحق التزكية، ويردون مَن لا يستحقها لأن العارفين بالله عالمون بمقامات العلماء أهل الظاهر، لا يخفى عليهم شيء من أحوالهم ومقاماتهم، بخلاف العلماء، لا يعرفون مقامات الأولياء، ولا يشمون لها رائحة، كما قال القائل:
تَرَكْنَا البُحُورَ الزاخِراتِ ورَاءنَا
…
فَمِنْ أَينَ يَدْرِِي الناسُ أينَ توجَّهْنَا
قال القشيري: (جعل هذه الأمة خيار الأمم، وجعل هذه الطائفة خيار هذه الأمة، فهم خيار الخيار. وكما أن هذه الأمة شهداء على الأمم في القيامة فهذه الطائفة هم المدار وهم القطب، وبهم يحفظ الله جميع الأمة. وكل مَن قبلته قلوبهم فهو المقبول، ومن ردَّته قلوبهم فهو المردود. فالحكم الصادق لفراستهم، والصحيح حكمهم، والصائب نظرهم، عصم جميع الأمة من الاجتماع على الخطأ، وعصم هذه الطائفة من الخطأ في النظر والحكم والقبول والرد، ثم إن بناء أمرهم مستند إلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكل مَن لا يكون له اقتداء بالرسول فهو عندهم مردود، وصاحبه كلا شيء) . وبالله التوفيق.
ثم ذكر الحق تعالى حكمة نسخ القبلة، فقال:
[سورة البقرة (2) : الآيات 143 الى 144]
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَاّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
قلت: (جعل) تصييرية، و (القبلة) مفعول أول، و (التي) صفة للمفعول الثاني المحذوف، أي: وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها وهي بيت المقدس، ثم وجهناك إلى الكعبة إلا لنعلم الثابت على الإيمان من غيره، أو: وما صيّرنا القبلة الجهة التي كنت عليها بمكة وهي الكعبة، فإنه كان- عليه الصلاة والسلام يصلي إليها بمكة.
وقيل: كان يستقبل بيت المقدس ويجعل الكعبة بينه وبينها، كما قال ابن عباس، و (إن) مخففة، واللام فارقة.
أي: وإنه، أي: الأمر والشأن: كانت التحويلة لشاقة على الناس، والرأفة: شدة العطف، فهي أبلغ من الرحمة. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جل جلاله: وما نسخنا حكم القبلة وجعلناها الجهة التي كنت عليها بمكة دون التي كانت بالمدينة، وهي بيت المقدس، إِلَّا لِنَعْلَمَ علم ظهور وشهادة مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ فى التحول إليها مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ لضعف إيمانه وقلة إيقانه، فإن التحويلة عن القبلة الأولى والرجوع عنها إلى الثانية شاق على النفوس، إلا مَن سبقت له الهداية وحفت به الرعاية، فإنه يدور مع مراد الله أينما دار، ويتبع رسوله أينما سار. ومن مات قبل التحويل إلى الكعبة فإن الله لا يضيع أجر عمله وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أي:
صلاتكم إلى بيت المقدس إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ.
الإشارة: الخروج عن العادات وترك الأمور المألوفات كلاهما شاق على النفوس، إلا على الذين هدى الله، ولذلك كان خرق العوائد هو الفصل بين الخصوص والعموم، ومفتاح لمخازن العلوم والفهوم. فمن لم يخرق عوائد نفسه فلا يطمع أن يدخل حضرة قدسه. (كيف يخرق لك العوائد وأنت لم تخرق من نفسك العوائد) . وهو الميدان الذي تحقق به سير السائرين. (لولا ميادينُ النفوس ما تحقق سير السائرين) . وهو عند شيوخ التربية ميزان يتميز به من يتبع الرسول ويلزم طريقه إلى الوصول، ممن ينقلب على عقبيه، فمن رأوه خرق عوائد نفسه، وزهد في ملبسه وجنسه، تحققوا بدخوله حضرة قدسه، إلاّ مَن سبق له الحرمان والعياذ بالله من الخذلان، ومن رأوه وقف مع العادات، وركن إلى المألوفات، ومال إلى الرُّخَص والتأويلات، علموا أن مقامه مقام أهل الحجاب، يأخذ أجره من وراء الباب، ولا نصيب له في الدخول مع الأحباب.
وأيضاً عند تخالف الآثار وتنقلات الأطوار، يظهر الإقرار من الإنكار. أهلُ الإقرار عارفون في كل حال، يدورون مع رياح الأقدار حيث سارت، ويسيرون معها حيث سارت، وأهل الإنكار جاهلون بالله في كل حال، معترضون عليه عند اختلاف الأحوال، نعوذ بالله من الضلال.
ثم ذكر الحق تعالى كيفية ابتداء نسخ القبلة، فقال:
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ
…
قلت: التقلب: التردد، وولَّيْت كذا: جعلته والياً له، والشَّطْر هنا: الجهة.
يقول الحق جل جلاله لنبيه- عليه الصلاة والسلام حين تمنى أن يُحَول إلى الكعبة، لأنها قبلة أبيه إبراهيم وأدْعى إلى إسلام العرب، وهي أقدم القبلتين، فكان ينظر إلى السماء، ويقلب وجهه فيها انتظاراً لنزول الوحْي، وهذا من كمال أدبه- عليه الصلاة والسلام حيث انتظر ولم يطلب، فقال له الحق تعالى: قَدْ نَرى أي:
ربما نرى تردد وَجْهِكَ فِي السَّماءِ انتظاراً للوحي، فلنعطينك ما تمنيت، ونوجهك إلى قبلة تَرْضاها وتحبها لمقاصد دينية وافقت المشيئة، واقتضتها الحكمة، فَوَلِّ وَجْهَكَ أي: اجعله موالياً شَطْرَ أي: جهة الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ أيها المؤمنون أي في أي مكان كنتم فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ جهته.
وإنما ذكر الحق تعالى شطر المسجد، أي: جهته، دون عين الكعبة لأنه- عليه الصلاة والسلام كان في المدينة، والبعيد يكفيه مراعاة الجهة، فإن استقبال عينها حَرجٌ عليه، بخلاف القريب، فإنه يسهل عليه مسامته العين «1» ، وقيل: أن جبريل- عليه السلام عيّنها له بالوحي فسميت قبلة وحْي.
رُوِيَ أنه صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فصلّى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً، ثم وُجِّه إلى الكعبة في رجب بعد الزوال قبل قتال بدر بشهرين، وقد صلّى بأصحابه في مسجد بني سلمة ركعتين من الظهر، فتحوّل في الصلاة، واستقبل الميزاب، وتبادل الرجال والنساء صفوفهم، فسُمي مسجد القبلتين. قاله البيضاوي.
الإشارة: في الآية إشارة إلى أن ترك التصريح من كمال الأدب، وفي الحكم:«ربما دلهم الأدب على ترك الطلب، كيف يكون دعاؤك اللاحق سبباً في قضائه السابق؟! جل حكم الأزل أن يضاف إلى العلل» . فإذا تمنيت شيئاً وتوقفت على أمر فاصبر وتأدب واقتد بنبيك- عليه الصلاة والسلام حتى يعطيك ما ترضى، أو يعوضك منها مقام الرضا. وفي المسألة كلام، والتحقيق أن ينظر إلى ما ينشرح به صدره في الوقت، فإن انشرح للدعاء دعا، وإن انقبض عن الدعاء سكت. والله يرزق من يشاء بغير حساب ولا علّة ولا أسباب.
(1) سامته: قابله ووازاه وواجهه.