الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول الحق جل جلاله: إن السفر والغزو ليس هما مما يجلب الموت أو يقدم الأجل، وعلى تقدير: لو وقع ذلك وحضر أجلكم فيه وقتلتم فِي سَبِيلِ اللَّهِ بالسيف، أَوْ مُتُّمْ حتف أنفكم، لما تنالون من المغفرة والرحمة والروح والريحان خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من حطام الدنيا الفانية لو لم تموتوا، وعلى أي وجه متم أو قتلتم فلا تحشرون إلا إلى الله، لا إلى أحد غيره، فيوفى جزاءكم ويعظم ثوابكم، وأما البقاء في الدنيا فلا مطمع لأحد فيه، سافر أو قعد في بيته، وقدَّم أولاً القتل على الموت وأخره ثانياً لأن الأول رتب عليه المغفرة والرحمة، وهما في حق من قتل في الجهاد أعظم ممن مات بغيره، فقدمه اعتناء به، وفي الثاني رتب عليه الحشر، وهو مستوٍ في القتل والموت، فلا مزية فيه للقتل على الموت. والله أعلم.
الإشارة: ولئن قتلتم نفوسكم وبذلتم مهجكم في طلب محبوبكم، فظفرتم بالوصول إليه قبل موتكم، أو متم في السير قبل الوصول إلى محبوبكم، لما تنالون من كمال اليقين وشهود رب العالمين، أو من المغفرة والرحمة التي تضمكم إلى جواره، خير مما كنتم تجمعون من الدنيا قبل توجهكم إليه، فإن الموت والحشر مكتوب على كل مخلوق، فيظهر فوز المجاهدين والمتوجهين، وغبن القاعدين المتسوفين. وبالله التوفيق.
ولمّا وقع ما وقع يوم أحد من مخالفة الرسول والفرار عنه- عليه الصلاة والسلام لم يعاتب صلى الله عليه وسلم أحدا، ولكن ألان لهم الكلام وعفا عنهم، كما أخبر عن ذلك الحق تعالى بقوله:
[سورة آل عمران (3) : آية 159]
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
قلت: (فبما) : صلة. والفظ: الجافي، يقال: فظ فظاظةً وفظوظاً، ورجل فظ، وامرأة فظة، والفض- بغير المشالة: التفرق، ويطلق على الكسر، ومنه: لا يفضض الله فاك.
يقول الحق جل جلاله: فبرحمة من الله ونعمة كنت سهلاً ليناً رفيقاً، فحين عصوا أمرك، وفروا عنك، ألنت لهم جانبك، ورفقت بهم، بل اغتممت من أجلهم مما أصابهم، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا جافيا سيئ الخلق غَلِيظَ الْقَلْبِ قاسيَهُ فأغلظت لهم القول، لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ أي: لتفرقوا عنك، ولم يسكنوا إليك، فَاعْفُ عَنْهُمْ فيما يختص بك، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ في حق ربك حتى يشفعك فيهم، وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ الذي يصح أن يشاور فيه تطييباً لخاطرهم، ورفعاً لأقدارهم، واستخراجاً وتمهيداً لسنة المشاورة لغيرهم، وخصوصاً الأمراء.
قال عليه الصلاة والسلام: «ما شقى عبد بمشورة، وما سعد باستغناء برأى» . وقال أيضاً: «مَا خَابَ مَن اسْتَخَارَ، وَلَا نَدِمَ من اسْتَشَار» . وقال أيضا- عليه الصلاة والسلام «إذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ خِيَارَكُمْ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ أَسخيَاءَكُمْ، وأَمرُكُم شُورَى بَيْنَكُم، فَظَهْرُ الأرْض خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا. وإذا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ وأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلاءَكُمْ، ولم تكن أموركم شُورَى بَيْنَكُم، فبَطْنُ الأرْضِ خَيرٌ من ظَهْرِهَا» .
فَإِذا عَزَمْتَ على شيء بعد الشورى، (فتوكل على الله) أي: ثق به وكيلاً، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ فينصرهم ويهديهم إلى ما فيه صلاحهم.
الإشارة: ما اتصف به نبينا- عليه الصلاة والسلام من السهولة والليونة والرفق بالأمة، اتصفت به ورثته من الأولياء العارفين، والعلماء الراسخين، ليتهيأ لهم الدعوة إلى الله، أو إلى أحكام الله، ولو كانوا فظاظاً غلاظاً لانفض الناس من حولهم، ولم يتهيأ لهم تعريف ولا تعليم، فينبغي لهم أن يعفوا ويصفحوا ويغفروا ويصبروا على جفوة الناس، ويستغفروا لهم، ويشاوروهم في أمورهم، اقتداء برسولهم، فإذا عزموا على إمضاء شيء فليتوكلوا على الله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ.
قال الجنيد- رضي الله عنه: (التوكل أن تقبل بالكلية على ربك وتعرض عمن دونه) . وقال الثوري: أن تفني تدبيرك في تدبيره، وترضى بالله وكيلاً ومدبراً، قال الله تعالى: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا. وقال ذو النون: (خُلع الأرباب، وقطع الأسباب.) وقال الخواص: قطع الخوف والرجاء مما سوى الله تعالى. وقال العرجي: رد العيش إلى يوم واحد، وإسقاط هم غد. هـ. وقال سهل: معرفة معطي أرزاق المخلوقين، ولا يصح لأحد التوكل حتى تكون عنده السماء كالصفر «1» والأرض كالحديد، لا ينزل من السماء قطر، ولا يخرج من الأرض نبات، ويعلم أن الله لا ينسى له ما ضمن من رزقه بين هذين. هـ. وقيل: هو اكتفاء العبد الذليل بالرب الجليل، كاكتفاء الخليل بالخليل، حين لم ينظر إلى عناية جبريل. وقيل لبهلول المجنون: متى يكون العبد متوكلاً؟ قال: إذا كان بالنفس غريباً بين الخلق، وبالقلب قريباً إلى الحق.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَرَّهُ أنْ يَكُونَ أكْرَم النَّاسِ فَلْيَتقِ الله، ومَنْ سَرَّه أن يكُون أغنى النّاس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يَده» .
قال ابن جزي: التوكل هو الاعتماد على الله في تحصيل المنافع وحفظها بعد حصولها، وفي دفع المضرات ورفعها بعد وقوعها، وهو من أعلى المقامات، لوجهين: أحدهما: قوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ، والآخر:
(1) الصفر: النحاس.