الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإشارة: قال بعض الحكماء: للنفس سر، ظهر على فرعون والنمرود، حتى صرّحا بدعوى الربوبية. قلت:
وهذا السر هو ثابت للروح في أصل نشأتها لأنها جاءت من عالم العز والكبرياء. انظر قوله تعالى: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي، وقال أيضاً: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي أي: سر من أسراره، فلما ركبت في هذا القالب الذي هو قالب العبودية- طلبت الرجوع إلى أصلها. فجعل لها الحقّ جل جلاله باباً تدخل منه فترجع إلى أصلها وهو الذل والخضوع والانكسار والافتقار، فمن دخل من هذا الباب، واتصل بمن يعرّفه ربه، رجعت روحه إلى ذلك الأصل، وأدركت ذلك السر، فمنها من تتسع لذلك السر وتطيقه، ومنها من تضيق عن حمله وتبوح به، فتقتلها الشريعة، كالحلاج وأمثاله، ومن طلب الرجوع إلى ذلك الأصل من غير بابه، ورام إدراكه بالعز والتكبّر، طُرد وأُبعد، وهو الذي صدر من النمرود وفرعون وغيرهما ممن ادّعى الربوبية جهلاً. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر الحق تعالى من أدركته العناية، وفي قصته برهان على إحياء الموتى الذي احتج به إبراهيم- عليه السلام فقال:
[سورة البقرة (2) : آية 259]
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
قلت: (أو) : عاطفة، و (كالذي) : معطوف على الموصول المجرور بإلى، أي: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِى رَبِّهِ، وإلى مثل الذي مر على قرية. وإنما أدخل حرف التشبيه لأن المُنكر للإحياء كثيرٌ، والجاهل بكيفيته أكثر، بخلاف مدعي الربوبية فإنه قليل. وقيل: الكاف مزيدة، والتقدير: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حاج وإلى الذي مرَّ، (أنَّى) :
ظرف ليُحيي، بمعنى: متى، أو حال بمعنى كيف، و (يتسنه) بمعنى يتغير، وأصله: يتسنن، فأبدلت النون الثالثة حرف علة. قال في الكافية:
وثَالِثَ الأمثَالِ أبدِلَنْه يا
…
نحو (تَظَنَّى خالدٌ تَظَنِّيَا)
فصار تَسَنَّى ثم حُذفت للجازم، وأتى بهاء السَّكْت، وقفا ووصلا، كالعِوض من المحذوف، وقيل: من السَّنة، وهو التغير، فالهاء أصلية، و (لنجعلك) : معطوف على محذوف، أي: لتعتبر ولنجعلك آية للناس.
يقول الحق جل جلاله: ألم ترَ يا محمد أيضاً إلى مثل الذي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ، وهو عزيز، حَبْرُ بني إسرائيل. - وقيل: غيره- مرَّ على بيت المقدس حين خربها بُختنصر وَهِيَ خاوِيَةٌ ساقطة حيطانها عَلى عُرُوشِها أي: سقفها، وذلك بعد مائة سنة حتى سقطت العروش، ثم سقطت الحيطان عليها، فلما رآها خالية، وعظام الموتى فيها بالية، قالَ في نفسه: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها أي: متى يقع هذا. اعترافاً بالقصور عن معرفة طريق الإحياء، واستعظاماً لقدرة المحيي، إن كان القائل عزيراً، أو استبعاداً إن كان كافراً، فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ أي: ألبثه ميتاً مائة عام، ثُمَّ بَعَثَهُ بالإحياء، فقال له على لسان الملك، أو بلا واسطة: كَمْ لَبِثْتَ ميتاً؟ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، وذلك أنه مات ضحى وبعث بعد مائة عام قبل غروب الشمس، فقال قبل النظر إلى الشمس (يوماً) ، ثم التفت فرأى بقية منها، فقال: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ على الإضراب، قال له الحق جل جلاله: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ.
وذلك أن عزيراً ذهب ليخترف «1» لأهله فجعل على حماره سَلة عنب وجَرَّة عصير. فلما مرَّ بتلك القرية ربط حماره، وجعل يتعجب من خرابها وخلائها بعد عمارتها، فقال في نفسه ما قال، فلطف الله به، وأراه كيفية الأحياء عياناً، فأماته مائة عام، حتى بليت عظام حماره وبقي العصير والعنب كأنه حين جنى وعصر فقال له جل جلاله: فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وهو العنب، وَشَرابِكَ وهو العصير، لَمْ يَتَسَنَّهْ، أي: لم يتغير بمرور الزمان وطول المدة، وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ كيف تفرقت أوصاله، وبليت عظامه، فعلنا ذلك بك لتشاهد قدرتنا، وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ بعدك، وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ أي: عظام حمارك، كَيْفَ نُنْشِزُها، أي: نحييها، من نَشَرَ الله الموتى: أحياها. أو: كَيْفَ نُنْشِزُها بالزاي- أي: نرفع بعضها، ونركبه عليه، ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً.
فنظر إلى العظام، فقام كلُّ عَظْم إلى موضعه، ثم كسى لحماً وجلداً، وجعل ينهق، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ ما كان استغربه وأُشكل عليه قالَ أَعْلَمُ علم اليقين أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، أو فلما تبين له الحق، وهو قدرته تعالى على كل شيء، قال لنفسه: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
(1) خرف الرجل يخرف: أخذ من طرف الفواكه، والمعنى: ذهب ليجتنى الثمر والفواكه.