الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول الحق جل جلاله فى توبيخ أحبار اليهود، كانوا إذا استرشدهم أحد من العرب دلّوه على الإسلام، وقالوا له: دين محمد حق، وهم يمتنعون منه، وقيل: كانوا يأمرون الناس بالصدقة وهم يبخلون، فقال لهم: كيف تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ والإحسان، وتتركون أَنْفُسَكُمْ في الكفر والعصيان، وأنتم تدرسون التوراة الصحيح، وتعلمون أن ذلك من أقبح القبيح؟، أفلا عقل لكم يزجركم عن هذه الخصلة الذميمة؟ فإن من شأن العقل التمييز بين القبيح والحسن والنافع والضار، فكل من تقدم لما فيه ضرره فلا عقل له.
الإشارة: كل مَن أشار إلى مقام لم يبلغْ قدمه إليه، فهذا التوبيخ متوجِّهُ إليه، وكل مَن ذكر غيره بعيب لم يتخلص منه، قيل له: أتأمر الناس بالبر وتنسى نفسك خالية منه، فلا يسلم من توبيخ هذه الآية من أهل التذكير إلا الفرد النادر من أهل الصفاء والوفاء.
وقال البيضاوي: (المراد بها حثّ الواعظ على تزكية النفس، والإقبال عليها بالتكميل لتُقَوم فيُقَيِّم، لا منع الفاسق عن الوعظ، فإن الإخلال بأحد الأمرين المأمور بهما لا يوجب الإخلال بالآخر) . فانظره. وتأمل قول القائل:
يا أيهَا الرجلُ المعلِّمُ غيرَه
…
هلَاّ لنفسِك كانَ ذا التعليمُ
تَصِف الدواءَ لِذي السقامِ وذي الضنَا
…
ومِن الضَّنَا وجَواهُ أنتَ سقيمُ
وأراكَ تلقحُ بالرشادِ عقُولَنا
…
نُصْحاً، وأنت مِن الرشادِ عديمُ
أبدأ بنفسِك فانْهَهَا عَن غَيَّها
…
فإذا انتهتْ عنه فأنتَ حكيمُ
فَهُناك يُقْبَلُ إن وعظتَ، ويُقتدَى
…
بالقول منكَ، وينفعُ التعليمُ
لا تَنْهَ عن خُلقٍ وتأتيَ مثلَه
…
عارٌ علَيكَ إذا فعلتَ عظيمُ
لكن مَنْ حصل له بعض الصفاء، ذكر غيره ونفسه معهم، وكان بعض أشياخنا يقول حين يذكر الفقراء: نحن إنما ننبح على نفوسنا.
ثم أشار الحق تعالى إلى الدواء، فقال:
[سورة البقرة (2) : الآيات 45 الى 46]
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَاّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46)
قلت: الصبر: هو حبس القلب على حكم الرب، فيحتمل أن يُراد به ظاهره، أو يراد به هنا الصوم، لأن فيه الصبر عن الشهوات. والخشوع فى الجوارح: سكونها وذُلها، والخضوع في القلب: انقياده لحكم الرب.
يقول الحق جل جلاله: يا مَن ابتلي بالرئاسة والجاه، واستكبر عن الانقياد لأحكام الله التي جاءت بها الرسل من عند الله، استعن على نفسك بِالصَّبْرِ على قطع المألوفات، وترك الحظوظ والشهوات، وأصل فروعها حب الرئاسة والجاه، فمن صبر على تركهما فاز برضوان الله. وفي الحديث:«وفي الصبر على ما تكره خير كثير» . وقال الشاعر:
والصَّبْرُ كالصْبرِ مُرٌ في مذَاقَتِه
…
لَكِنْ عَواقِبُه أحلَى مِن العسلِ
أو: وَاسْتَعِينُوا بالصوم وَالصَّلاةِ، فإن في الصوم كَسْرَ الشَّهْوَةِ وتصفية النفس، فإذا صفت النفس من الرذائل تحلت بأنواع الفضائل، كالتواضع والإنصاف، والخشوع وسائر سني الأوصاف، وفي الصلاة أنواع من العبادات النفسية والبدنية، كالطهارة، وستر العورة، وصرف المال فيهما، والتوجه إلى الكعبة، والعكوف للعبادة، وإظهار الخشوع بالجوارح، وإخلاص النية بالقلب، ومجاهدة الشيطان، ومناجاة الرحمن وقراءة القرآن، وكف النفس عن الأطْيَبَيْنِ «1» ، وفي الصلاة قضاء المآرب وجبر المصائب، ولذلك كان- عليه الصلاة والسلام إذا حزيه أمر فزع إلى الصلاة، وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ أي: شاقة على النفس لتكريرها في كل يوم، ومجيئها وقت حلاوة النوم، إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ الذين سكنت حلاوتها في قلوبهم، وتناجوا فيها مع ربهم، حتى صارت فيها قُرَّة عينهم.
الذين يتيقنون أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ فيتنعمون بالنظر إلى وجهه الكريم، ويتيقنون أيضاً أنهم راجعون إلى ربهم بالبعث والحشر للثواب والعقاب، وإنما عبَّر الحق تعالى هنا بالظن في موضع اليقين إبقاء على المذنبين، وتوفراً على العاصين، الذين ليس لهم صفاء اليقين إذ لو ذكر اليقين صرفاً لخرجوا من الجملة، فسبحانه من رب حليم، وجواد كريم. اللهم امنن علينا بصفاء المعرفة واليقين، حتى لا يختلج قلوبنا وَهْمٌ ولا ريب، يا رب العالمين.
الإشارة: يا من رام الدخول إلى حضرة الله، تذلل وتواضع لأولياء الله، وتجرّع الصبر في ذلك كي يدخلوك حضرة الله، كما قال القائل:
تَذللْ لِمنْ تَهْوَى فَلَيْسَ الْهَوى سَهْلُ «2»
…
إِذَا رَضِيَ المحبوبُ صَحّ لَكَ الوَصْلُ
(1) أي: الأكل والجماع. قاله الشهاب الخفاجي فى حاشيته على البيضاوي 451/ 2.
(2)
أرى أن يكون: (تذلل لمن تهوى فما فى الهوى سهل) .