الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإشارة: يا أيها الذين آمنوا إيمانَ أهل العِرْفان، كلوا من طيبات ما رزقناكم من حلاوة الشهود والعيان، واشكروا الله الكريم المنَّان، إن كنتم تخصونه بالعبادة والإحسان، أو: يا أيها الذين آمنوا إيمان أهل الصفاء، ووقفوا مع الحدود وقوف أهل الوفاء، كلوا من طيبات ما رزقناكم من ثمرات بساتين العلوم، واشكروا لله يزدكم من المواهب والمفهوم، إن كنتم تعبدون الحيّ القيوم، إنما حرَّم عليكم ما يعوقكم عن هذه المواهب، أو ينزلكم عن منابر تلك المراتب، كالميل إلى جيفة الدنيا، أو الركون إلى متابعة الهوى، أو تأخذون منها ما قُصد به غيرُ الله، أو تقبضونها من يد غير الله. فمن اضطر إلى أخذ شيء من نجاستها، فأخَذَ القدر الذي احتاج إليه منها، دون التشوُّف إلى ما زاد عليه، غير قاصد بذلك شهوة ولا متعة، فلا إثم عليه، إن الله غفور رحيم.
قال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه لما تكلم على الغَنِيَّ بالله، قال:(علامته هو الذي ترك الدنيا للخلق، حتى لا يكون له فيها حق معهم، إلا ما فَضَل عنهم من بعد اضطراره واحتياجه، ويترك الآخرة لمولاه، حتى لا يكون له فيها حق إلا النظر في وجه الله، ويترك أيضاً نفسه لله حتى لا يكون فيها حق إلا حق مولاه، ولا إرادة له إلا ما أراد مولاه، ويكون كالغصن الرطب أينما مالت به الريح يلين ويميل معها، ولا ينكر على الخلق حالاً من أحوالهم) . هـ.
ومن جملة ما ألحق بهذه المحرمات الرّشا وأكل أموال الناس بالباطل، ولذلك ذكره الله تعالى بإثر ما أحلّه للمؤمنين، فقال:
[سورة البقرة (2) : الآيات 174 الى 176]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَاّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176)
قلت: (ما) تعجيبة، مبتدأ، وهي نكرة، وسوَّغَ الابتداء معنى التعجب، وجملة (أصبرهم) خبر، أي: أيُّ شيء عظيم صيَّرهم صابرين، أو استفهامية، أي: أيُّ شيء حملهم على الصبر على النار؟.
يقول الحق جل جلاله في رؤساء اليهود وعلمائهم، كانوا يُصيبون من سفلتهم الهدايا والخَرَاج، ويدَّعون أن النبيّ المبعوث منهم، فلما بعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خافوا ذهاب مأكلتهم ورئاستهم، فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم، ويحرفونها في المعنى ويَنْزِعُونها مِنَ الْكِتابِ أي: التوراة، وَيَشْتَرُونَ بذلك التحريف ثَمَناً قَلِيلًا أي: عِوَضاً حقيراً يذهب ويفنَى في زمان قليل، أُولئِكَ الذين يكتمون ويأكلون ذلك العوض الحقير- ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إلا نار جهنم لأنها مآلهم وعقوبة أكلهم، وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ إهانة وغضباً عليهم حين يُكلم أولياءه ويسلم عليهم، وَلا يُزَكِّيهِمْ أي: لا يطهرهم من دنَس ذنوبهم حتى يتأهلوا للحضرة، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مُوجع. أُولئِكَ الَّذِينَ استبدلوا الضَّلالَةَ بِالْهُدى أي:
باعوا الهدى واشتروا به الضلالة، واستبدلوا الْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ التي كانت لهم لو آمنوا وبيّنوا، فما أجرأهم على اقتحام النار باقتحام أسبابها، أو فما أبقاهم في النار، أو ما الذي أصبرهم على النار حتى تركوا الحق ومالوا إلى الباطل؟! استفهام توبيخي.
ذلِكَ العذاب الذي استحقوه وتجرءوا عليه بسبب أن اللَّهَ تعالى نَزَّلَ الْكِتابَ القرآن ملتبساً بِالْحَقِّ، فاختلفوا فيه فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أي: لفي خلاف وضلال بعيد.
الإشارة: كل من كتم علمه، ولم ينشرْه إلا في مقابلة حظ دنيوي، صَدَق عليه قولُه تعالى: وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ. رُوِيَ أن بعض الصحابة كان يُقرئ أهل الصُّفّة، فأَهْدَى له أحدُهم قوساً، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله: كنت أُعلِّمُ أهلَ الصفة فأهدى لي فلان قوساً، وقال: هو لله، فقال له- عليه الصلاة والسلام:«لقدْ تقلدتَ قَوسْاً مِنْ نَارِ جَهنم» . أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وأمره بردِّه. ولعل هذا من باب الورع، فأراد عليه السلام أن يرفع همة ذلك الصحابي، وإلا فقد ورد في الحديث:«أَحَقُّ ما أَخَذْتُمْ علَيْهِ الأجرَ كتَابُ اللهِ» .
فمن ملَكَتْه نفسه، وأسره الهوى، فقد اشترى الضلالة بالهدى، اشترى الضلالة عن طريق أولياء الله، بالهدى الذي كان له لو ملَكَ نفسه وهواه، وعذابَ القطيعة والحجاب، بالمغفرة والدخول مع الأحباب، فما أصبرهم على غم الحجاب وسوء الحساب، سبب ذلك اختلاف قلبه، وتفريق همه ولُبَّه، وقد قال- عليه الصلاة والسلام:«اقْرَءوا القُرْآنَ ما ائْتَلَفَتْ عليه قلوبكم، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا» . أو كما قال.