الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واعلم أن النصارى انقسموا على أربع فرق: نسطورية، ويعقوبية، وملكانية، ومرقوسية، ومنهم نصارى نجران، فالنسطورية، قالوا في عيسى هو ابن الله، واليعقوبية، والملكانية، قالوا هو الله، والمرقوسية قالوا: هو ثالث ثلاثة، وكلهم ضالون.
الإشارة: الغلو كله مذموم، وخير الأمور أوساطها، وقد قال عليه الصلاة والسلام:«لا تطروني كما أطرت النّصارى عيسى بن مَريم، ولكن قولوا: عَبدُ اللهِ وَرَسُوله» ، ويرخص للفقير أن يتغالى في مدح شيخه، ما لم يخرجه عن طوره، أو ينتقص غيره بمدحه، وفي الإشارة حث على حفظ مقام التوحيد، وتنزيهه تعالى عن الأضداد والأنداد. وفي ذلك يقول الشاعر:
أرَبٌّ وعَبدٌ ونَفى ضِدٍ
…
قلتُ لَهُ: لَيسَ ذَاكَ عِندِي
فَقَالَ ما عِندَكُم؟ فقُلنَا:
…
وُجُودُ فَقدٍ وفَقدُ وُجد
فإثبات العبودية مستقلة تضاد الربوبية، ولذلك أنكرها الشاعر، أي: أثبت ربًا وعبدًا، وأنت تقول بنفي الضد عنه وفي الحكم:«الأكوان ثابتة بإثباته ممحوة بأحدية ذاته» .
ولما قالت نصارى نجران للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك تعيب صاحبنا؟ فقال- عليه الصلاة والسلام ومن صاحبكم؟ قالوا:
عيسى. قال: وأي شيء أقول؟ قالو: تقول إنه عبد الله. قال لهم- عليه الصلاة والسلام «ليس بعارٍ أن يكون عيسى عبدا لله» ، أنزل الله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 172 الى 173]
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173)
قلت: أصل الاستنكاف: التنحية، من قولهم: نكفت الدمع إذا نحيته بإصبعك كي لا يُرى أثره عليك، ثم أُطلق على الأنفة، والاستكبار دون الاستنكاف، ولذا عطف عليه لأن الاستنكاف لا يستعمل إلا حيث لا استحقاق، بخلاف الاستكبار فإنه يكون باستحقاق. قاله البيضاوي.
يقول الحق جل جلاله في الرد على النصارى: نْ يَسْتَنْكِفَ
أي: لن يأنفْ مَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ
فإن عبوديته لله شرف يتباهى بها، وإنما المذلة والاستنكاف في عبوديته لغيره، لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
لا يستنكفون أيضًا أن يكونوا عبيدًا لله، بل ما كانوا مكرمين إلا بعبوديتهم لله، واحتج بالآية مَن فَضَّل الملائكة على الأنبياء، لأن المعطوف يقتضي أن يكون أرفع درجة من المعطوف عليه، حتى يكون عدم استنكاف الملائكة كالدليل على عدم استنكاف المسيح.
والجواب: أن عطف الملائكة إنما أريد به التكثير والمبالغة، كقولهم: أصبح الأمير اليوم لا يخالفه رئيس ولا مرؤوس، والرئيس أفضل من المرءوس، والتحقيق في المسألة أنَّ الأنبياء والرسل أفضل من خواص الملائكة كالمقربين، وخواص الملائكة- وهم المقربون- أفضل من خواص البشر كالأولياء، وخواص البشر أفضل من عوام الملائكة، وعوام الملائكة أفضل من عوام البشر، ولذلك قيل: من غلب عقله على هواه، كان كالملائكة أو أفضل، ومن غلَب هواه على عقله، كان كالبهائم أو أضل. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر وعيد من استنكف عن عبوديته- تعالى- فقال: مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً
فيجازيهم فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ولم يستنكفوا عن عبادته فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ مالا عين رأت ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا عن عبوديته وَاسْتَكْبَرُوا عن عبادته فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً أي: مُوجعًا، وهو النار، وقال القشيري: العذاب الأليم: هو ألا يصلوا إليه أبدًا بعد ما عرفوا جلاله، إذ صارت معرفتهم ضرورية- أي قهرية- فحسراتهم حينئٍذ على ما فاتهم أشدُّ عقوبة لهم. هـ. وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً.
فإن قلت: هذا التفصيل أعم من المفصل، لأن الحشر إنما ذكر للمتكبرين والتفصيل أعم، فالجواب: أن عموم المفصل يفهم من قوة الكلام، فكأنه قال: فسيحشرهم للمجازاة يوم يجازي عباده جميعًا، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
…
الخ، نظيره: قولك: جمع الأمير كافة مملكته، فأما العلماء فأكرمهم، وأما الطغاة فقطعهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: العبودية أشرف الحالات وأرفع المقامات، بها شرف من شرف، وارتفع من ارتفع، عند الله، وما خاطب الله أحباءه إلا بالعبودية، فقال تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا، وقال: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ، وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ، وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ
…
إلى غير ذلك.