الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: (الذين) : صفة المنافقين، أو نصب على الذم، و (نستحوذ) : نغلب، استحوذ: غلب، جاء على أصله، ولم يُعلّ كاستعاذ والقياس: استحاذ، يستحيذ، كاستعاذ يستعيذ، لكنه صحح تنبيهًا على الأصل.
يقول الحق جل جلاله: إِنَّ اللَّهَ سيجمع الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ، أي: الخائضين والقاعدين معهم، فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً خالدين فيها. الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ أي: ينتظرون بكم الدوائر، أي: ما يدور به الزمان والدهر عليكم، وهم المنافقون، فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ كالنصر والغنيمة قالُوا للمؤمنين: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ على دينكم، فأعطونا مما غنمتم، وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ دولة أو ظهور على المسلمين، قالُوا لهم: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ أي: نغلبكم ونتمكن من قتلكم، وأبقينا عليكم فمنعناكم من قتل المسلمين لكم، بأن خذلناهم بتخييل ما ضعُفت به عزيمتهم عليكم، وتوانينا في مظاهرتهم عليكم، فأشركُونا مما أصبتم. وإنما سمي ظفر المسلمين فتحًا، وظفر الكافرين نصيبًا لخسة حظه، فإنه حظ دنياوي، استدراجًا ومكرًا، بخلاف ظفر المسلمين، فإنه إظهار الدين، وإعانة بالغنيمة للمسلمين.
فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فيدخل أهل الحق الجنة، ويدخل أهل الخوض النار، وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا أي: حجة، أو غلبة في الدنيا والآخرة، وفيه دليل على عدم صحة ملك الكافر للمسلم، فيباع عليه إن اشتراه، ويفسخ نكاحه إن تزوج مسلمة. والله تعالى أعلم الإشارة:(المرء مع مَن أحب) من أحب قوما حشر معهم، فمن أحب أهل الخوض حُشر مع الخائضين، ومن أحب أهل الصفا حشر مع المخلصين، وإن كان مذبذبًا يميل مع كل ريح حشر مع المخلطين، وهو من خف عقله وضعف يقينه، إن رأى بأهل النسبة من الفقراء عزًا ونصرًا وفتحًا انحاز إليهم، وقال: ألم نكن معكم، وإن رأى لأهل الإنكار من العوام صولة وغلبة رجع إليهم، وقال: ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من دعاء الصالحين عليكم، فما لهذا عند الله من خلاق. وفي الحديث:«ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهًا» . فالله يحكم بينهم يوم القيامة، فيرفع أهل الصفا مع المقربين، ويسقط أهل الخوض مع الخائضين، وليس لأهل الخوض من أهل الإنكار سبيل ولا حجة على أهل الصفا من الأبرار، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ.
ثم ذكر أحوالهم الشنيعة، فقال:
[سورة النساء (4) : الآيات 142 الى 143]
إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَاّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لآَ إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143)
قلت: جملة: (ولا يذكرون الله) حال من واو (يُراءون)، وكذلك (مذبذبين) أي: يراءون حال كونهم غير ذاكرين مذبذبين، أو منصوب على الذم، والمذبذب: المضطرب المتردد.
يقول الحق جل جلاله: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ
بإظهار الإيمان وإخفاء الكفر، وَهُوَ خادِعُهُمْ
، أي: مجازيهم على خداعهم بأن يظهر لهم يوم القيامة نورًا يمشون به على الصراط، كما يعطي المؤمنين، فإذا مضوا به طفئ نورهم وبقي نور المؤمنين، فينادونهم: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً، فيتهافتون في النار. فسمي هذه العقوبة خداعًا تسمية للعقوبة باسم الذنب.
وكانوا إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
أي: متثاقلين، لا يريدون بها وجه الله، فإن رءاهم أحد، صلوا، وإلَاّ انصرفوا، فلم يصلوا، يُراؤُنَ
بأعمالهم النَّاسَ
أي: المؤمنين، وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
لأن المرائى لا يذكر إلا بحضرة الناس، وهو أقل أحواله، أو لا يذكرونه في صلاتهم إلا قليلاً، لأنهم لا يذكرون إلا التكبير والتسليم، وقال ابن عباس: إنما ذلك لأنهم يفعلونها رياءً وسمعةً، ولو أرادوا بذلك وجه الله تعالى لكان كثيرًا.
وقال قتادة: إنما قل ذكرهم، لأنه لم يُقبل، فكل ما رُدَّ من العمل فهو قليل، وكل ما قُّبل فهو كثير.
وكانوا أيضًا مُذَبْذَبِينَ أي: مترددين ومتحيرين بين الكفر والإيمان، لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ أي: لا صائرين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين. قال قتادة: ما هم بمؤمنين مخلصين، ولا مشركين مُصَرِّحين بالشرك، هكذا سبق في علم الله، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا أي: طريقًا إلى الهدى، ومثله قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ.
الإشارة: كل من أحب أن يَرى الناسُ محاسنَ أعماله وأحواله، ففيه شعبة من النفاق وشعبة من الرياء، وعلامة المرائي: تزيين ظاهرة وتخريب باطنه، يتزين للناس بحسن أعماله وأحواله، يراقب الناس ولا يراقب الله، وكان بعضُ الحكماء يقول: يقول الله- تعالى-: «يا مُرائي: أمرُ من ترائي بيد من تعصيه» . فمثل هذا أعماله كلها قليلة، ولو كثرت في الحس كالجبال الرواسي، وأعمال المخلصين كلها كثيرة ولو قلَّت في الحس، وأعمال المرائين كلها قليلة ولو كثرت في الحس. قال في القوت: وَصَفَ اللهُ تعالى ذكر المنافقين بالقلة، لكونه غير خالص، كما قيل في تفسير قوله تعالى: ذِكْراً كَثِيراً أي: خالصًا، فسمي الخالص كثيرا. هـ.
قوله تعالى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ: هذه صفة أهل الدعوى، المستشرفين على الحقيقة بالعلم، ليسوا من الخصوص ولا من العموم، مترددين بين الفريقين، ومن يضلل الله عن طريق التحقيق، فلن تجد له سبيلا.