الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فذنبهم قلة معرفتهم لأقدار الحق، كما قال عليه الصلاة والسلام:«لو أن الله عذب الملائكة لحق منه، فقيل: إنهم معصومون، فقال عليه الصلاة والسلام: من قلة معرفتهم بربهم» «1» . ولذلك دعاهم إلى المغفرة. هـ. قال في الحاشية: وقوله: (أثبت بالآية ذنب الكل)، يعني: شمول قوله: (يغفر لمن يشاء) مَنْ فى السموات الصادق بالملائكة، وإنما تكون المغفرة بعد ذنب، ولكنه في كل أحد على حسبه، وأما قوله: دعاهم إلى المغفرة، فكأنه من قوله: سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، وأن الخطاب يعم من فى السموات أيضاً، وقد يتصور في حق الملائكة الاستنادُ لظواهر الأمور والاختلاف بينهم والاختصام، مما هو معرض للخطأ، وذلك من دواعي المغفرة، وكذلك القصور عن معرفة كنه جلال الله: نقصٌ لا يخلو منه مخلوق، لاستحالة الإحاطة به علماً، ولذلك كان الترقي في المعرفة لا حد له أبداً سرمداً. هـ.
ثم ذكر حال أهل اليمين، فقال:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 135 الى 136]
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَاّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136)
يقول الحق جل جلاله: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أي: فعلة بالغة في الفحش والقبح، كالزنى، أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بأي ذنب كان، أو فعلوا كبيرة أو صغيرة، أو الفاحشة: ما يتعدى للغير، وظلم النفس ما يخص، أو الفاحشة بالفعل، وظلم النفس بالقول، ذَكَرُوا اللَّهَ أي: عقابه وغضبه وعرضه الأكبر، أو ذَكَرُوا اللَّهَ في أنفسهم أن الله سائلهم عنه، أو كونه رقيباً عليهم، أو ذَكَرُوا اللَّهَ باللسان فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ بالندم والتوبة، وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ أي: لا أحد يغفره إلا الله، والمراد: وصفه تعالى بسعة الرحمة وعموم المغفرة، والحث على الاستغفار.
وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا أي: لم يدوموا عليها غير مستغفرين، لقوله صلى الله عليه وسلم:«ما أصَرَّ مَن اسْتَغفَر، ولو عَادَ في اليَوم سَبْعِينَ مَرَةً» ، وذلك إذا صحبه الندم، وقال أيضاً: «لا كَبِيرةَ مَعَ الاستغفَار، ولا صغيرة مع
(1) لم أقف عليه. وذكر المتقى الهندي فى الكنز حديث: (لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرا لهم من أعمالهم..» وعزاه لأحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن حبان. انظر: (الكنز 1/ 130 ح 613) .
الإصْرارِ» . قال قتادة: إياكم والإصرار، فإنما هلك المصرون الماضون قِدْماً في معاصي الله تعالى، لم يتوبوا حتى أتاهم الموت. هـ. وَهُمْ يَعْلَمُونَ أن الإصرار يضر بهم، أو: وهم يعلمون أن لهم رباً يغفر الذنب لقوله- عليه الصلاة والسلام: «مَنْ أَذْنَبَ ذنْباً، وعَلِمَ أَنَّ له ربّاً يَغْفُرِ الذنوب، غَفَرَ له وإِنْ لمْ يسْتَغفر» . وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: «مِنْ علم أني ذو قدرة على المغفرة غفرتُ له ولا أبالي» . وفي بعض الكتب المنزلة:
«يا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ ما دَعَوْتني ورَجَوْتني لأغفرن لَكَ على مَا كَانَ منكَ ولا أُبَالِي» . أو: (وهم يعلمون) أن التوبة تمحق الذنوب.
أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ تغطية لذنوبهم، وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها، ولا يلزم من إعدادها للتائبين اختصاصهم بها، كما لا يلزم من إعداد النار للكفار اختصاصهم بها، ثم مدح أجر التائبين فقال: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ، وانظر هذا الفرق العظيم الذي بين المحسنين وأهل اليمين، قال في الآية الأولى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وقال في هذه الآية: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ، أهل الآية الأولى من خواص الأحباب، وأهل هذه يأخذون أجرهم من وراء الباب. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى عين التحقيق.
الإشارة: أهل مقام الإحسان عملهم قلبي، كالسخاء والعفو وكظم الغيظ، وأهل اليمين عملهم بدني، بين طاعة ومعصية وغفلة ويقظة، إذا فعلوا فاحشة تابوا واستغفروا، وإذا فعلوا طاعة فرحوا واستبشروا، أهل مقام الإحسان غائبون عن رؤية أعمالهم ووجودهم، وأهل اليمين معتمدون على أعمالهم، إذا فعلوا طاعة قوى رجاؤهم، وإذا زلَّوا نقص رجاؤهم، أهل مقام الإحسان فانون عن أنفسهم باقون بربهم، وأهل اليمين أنفسهم موجودة وأعمالهم لديهم مشهودة، أهل مقام الإحسان محبوبون، وأهل اليمين مُحِبُّون، أهل مقام الإحسان فنيت عندهم الرسوم والأشكال، وبقي في نظرهم وجود الكبير المتعال، وأهل اليمين: الأكوان عندهم موجودة، وشموس المعارف عن قلوبهم مفقودة، أهل مقام الإحسان يعبدون الله على نعت الشهود والعيان، وأهل اليمين يعبدون الله من وراء حجاب الدليل والبرهان، أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان.
واعلم أن لمعرفة الشهود والعيان ثمرات ونتائج، حصرها بعضهم في إحدى عشرة خصلة:
الأولى: الحرية، ومعناها أن يكون العارف فرداً لِفَرْدٍ، من غير أن يكون تحت رق شيء من الموجودات، لا من إغراض الدنيا ولا من أغراض الآخرة، فالحرية عبارة عن غاية التصفية والطهارة. قال بعضهم: ليس بحُرٍّ من بقي عليه من تصفية نفسه مقدار فص نواة، المكاتب عبد ما بقي عليه درهم.
الثانية: الوجود، وهو الفوز بحقيقة الأشياء في الأصل، وهو عبارة عن إدراك مقام تضمحل فيه الرسوم، بالاستغراق في الحقيقة الأزلية.