الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإشارة: ما زال الدعاة إلى الله من أهل التربية النبوية يدعون الناس إلى الله، ويعرفونهم بالطريق إلى الله، يبينون لهم الطريق إلى عين التحقيق، والناس يبعدون عنهم ويفرّون منهم، وهم في أخراهم يقولون بلسان الحال أو المقال: يا عباد الله، هلم إلينا نعرفُكم بالله، وندلكم على الله، فلا يلوي إليهم أحد ولا يلتفت إليهم بشر، إلا مَن سبقت له العناية، وأراد الحق تعالى أن يوصله إلى درجة الولاية، «سبحان مَن لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه، ولم يوصل إليهم إلا مَن أراد أن يوصله إليه» ، فأثابهم على الفرار غم الحجاب، متصلاً بغم الأسباب، فلا يحزنوا على ما فاتهم من المعرفة إذ لم يعرفوا قدرها، ولا على ما أصابهم من الغفلة والبطالة، إذ لم يتفطنوا لها، (والله خبير بما تعملون) يا معشر العباد، من التودد أو العناد. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم أنزل على أهل أحد الأمن والطمأنينة بعد الشدة والمحنة، كما أشار إلى ذلك الحق، بقوله:
[سورة آل عمران (3) : آية 154]
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154)
قلت: (نعاسا) : بدل من (أمنة) ، أو هو المفعول، و (أمنة) : حال منه، مقدمة، أو مفعول له، أي: أنزل عليكم نعاساً لأجل الأمنة، أو حال من كاف (عليكم)، أي: أنزل عليكم حال كونكم آمنين. والأمنة: مصدر أمِن، كالعظَمة والغَلَبة.
يقول الحق جل جلاله: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ أيها المؤمنون مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ الذي أصابكم بموت إخوانكم، والإرجاف بقتل نبيكم، الأمن والطمأنينة، حتى أخذكم النعاس وأنتم في الحرب. قال أبو طلحة:(غَشينَا النعاسُ ونحن في المصافّ، حتى كان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه، ثم يسقط فيأخذه) . وقال الزبير رضي الله عنه: لقد رأيتني حين اشتدّ الخوف، ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم، أرسل الله- تعالى- علينا النوم، والله إني لأسمع قول معتب، والنعاس يغشاني، ما أسمعه إلا كالحلُم:(لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا) .
ثم إن هذا النعاس إنما يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وهم المؤمنون، أو: هذه الأمنة إنما تغشى طائفة منكم، وأما المنافقون فقد أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ، أي: أوقعتهم في الهموم والغموم، أو ما يهمهم إلا أنفسهم، يُدبرون خلاصها
ونجاتها، فقد طارت قلوبهم من الخوف، فلا يتصور في حقهم النوم، يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ أي: غير الظن الحق، لأنهم ظنّوا أنه لا ينصر- عليه الصلاة والسلام، وأن أمره مضمحل، أو ظنوا أنه قتل، ظنّاً كظن الجاهلية، أهل الشرك، يَقُولُونَ أي: بعضهم لبعض: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ أي: عُزلنا عن تدبر أنفسنا، فلم يبق لنا من الأمر من شيء. قاله ابنُ أُبي، لَما بلغة قتل الخزرج.
قُلْ لهم يا محمد: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ليس بيد غيره شيء من التدبير والاختيار، حال كون المنافقين يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ من الكفر والنفاق ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا أي: لو كان تدبيراً أو اختياراً ما خرجنا مع محمد حتى نقتل هاهنا ويقتل رؤساؤنا. قُلْ لهم يا محمد:
أخرجتكم القدرة فى سلسلة المقادير، رغماً على أنفكم، فلو كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ آمنين لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ، ووصل أجلهم إِلى مَضاجِعِهِمْ ومصارعهم، رغماً على أنفهم، فإن الله قدَّر الأمور ودبرها في سابق أزله، لا معقب لحكمه، وإنما فعل ذلك، وأخرجكم إلى المعركة لِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ أي: يختبر ما فيها من الخير أو الشر، وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ أي: يكشف ما فيها من النفاق أو الإخلاص، فقد ظهر خبث سريرتكم ومرض قلوبكم بالنفاق الذي تمكن فيه، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي: بخفاياها قبل إظهارها. وفيه وعد ووعيد وتنبيه على أنه غني عن الابتلاء، وإنما فعل ذلك ليُميِّز المؤمنين ويُظهَر حال المنافقين. قاله البيضاوي.
الإشارة: ثم أنزل عليكم أيها الواصلون المتمكنون، أو من تعلق بكم من السائرين، من بعد غم المجاهدة وتعب المراقبة أمنة في قلوبكم بالطمأنينة بشهود الله، وراحة في جوارحكم من تعب الخدمة في السير إلى الله، حتى وصلتم فنمتم في ظل الأمن والأمان، وسكنتم في جوار الكريم المنان.
قال بعض العارفين: (إذا انتقلت المعاملة إلى القلوب استراحت الجوارح)«1» ، وهذه الراحة إنما تحصل للعارفين، أو من تعلق بهم من المريدين، وطائفة من غيرهم وهم المتفقرة الجاهلون، الذين لا شيخ لهم، قد أهمتهم أنفسهم، تارة تصرعهم وتارة يصرعونها، تارة تُشرق عليهم أنوارُ التوجه، فيقوى رجاؤهم في الفتح، وتارة تنقبض عنهم فيظنون بالله غير الحق، ظن الجاهلية، يقولون: هل لنا من الفتح من شيء؟.
قل لهم: (أنَّ الأمر كله لله) يوصل من يشاء ويبعد من يشاء، يخفون في أنفسهم من العيوب والخواطر الرديئة ما لا يبدون لك، فإذا طال عليهم الفتح، وغلب عليهم الفقر، ندموا على ما فاتهم من التمتع بالدنيا، يقولون: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا بالذل والفقر والجوع، قل لهم: ذلك الذي سبق في علم الله، لا محيد لأحد عنه، ليظهر الصادق في الطلب من الكاذب، [كن صادقاً تجد مرشداً] ، فلو صدقتم في الطلب لأرشدكم إلى من يُوصلكم ويريحكم من التعب. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
(1) سبق بيان معنى العبارة عند إشارة الآية/ 212 من سورة البقرة.