الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: والمؤمنون عطف على الراسخين، و (يؤمنون) : حال منهم. و (المقيمين) : نصب على المدح، لأن العرب إذا تطاولت في مدح شيء أو ذمه خالفوا بين إعراب أوله وأوسطه، نظيره: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ. وقالت عائشة رضي الله عنهما: هو لحن من الكُتَّاب «1» ، وفي مصحف ابن مسعود:(والمقيمون) بالرفع على الأصل.
يقول الحق جل جلاله: ليس أهل الكتاب كلهم كما ذكرنا، لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ كعبد الله ابن سلام، ومخيريق، وغيرهما ممن له علم بالكتب المتقدمة، وَالْمُؤْمِنُونَ منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، من عوامهم حال كونهم يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ أي: يؤمنون إيمانًا كاملاً بلا تفريق، وأخص الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ، المتقنين لها، الْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ المفروضة، وَالْمُؤْمِنُونَ منهم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، على صفة ما جاء به القرآن من البعث بالأجسام والحساب وغير ذلك مما هو مقرر في السنة، أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً، فتكون الآية كلها في أهل الكتاب.
أو يقول الحق جل جلاله: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ من أهل الكتاب، وَالْمُؤْمِنُونَ بمحمد صلى الله عليه وسلم، من العرب، وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ منهم، وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً.
الإشارة: كل من تحقّقت توبته بعد عصيانه، وظهرت يقظته بعد غفلاته، ورسخ في العلم بالله وبصفاته وأسمائه التحق بالسابقين، وحشر مع المقربين، وكان ممن أوتي أجرًا عظيمًا وخيرًا جسيمًا، والحمد لله رب العالمين.
ثم أجاب أهل الكتاب عن سؤالهم أن ينزل عليهم كتابًا من السماء فقال:
[سورة النساء (4) : الآيات 163 الى 165]
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165)
(1) رد العلماء والمفسرون على هذا الخبر، ومنهم الإمام ابن جرير الطبري الذي قال: لو كان ذلك خطأ من الكاتب لكان الواجب أن يكون فى كل المصاحف غير مصحفنا الذي كتبه لنا الكاتب، الذي أخطأ فى كتابه. وفى اتفاق مصحفنا ومصحف أبى فى ذلك ما يدل على أنَّ الذي فى مصحفنا من ذلك صواب غير خطأ. مع أن ذلك لو كان خطأ من جهة الخط لم يكن الذين أخذ عنهم القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّمون من علموا ذلك من المسلمين على وجه اللحن، ولأصلحوه ولقنوه الأمة تعليما على وجه الصواب. وفى نقل المسلمين جميعا ذلك قراءة على ما هو به فى الخط مرسوما، أدل الدليل على صحة ذلك وصوابه، وأن لا صنع فى ذلك للكاتب. انظر: تفسير الطبري بتعليق الشيخ شاكر- والإتقان للسيوطى، وتفسير الرازي.
قلت: من قرأ (زبورًا) بالفتح، فالمراد به كتاب الزبور، ومن قرأ بالضم، فجمع «زِبر» بكسر الزاي وسكون الباء، بمعنى مزبورًا، أي: مكتوبًا، أي: آتينا داود كتبًا متعددة، و (رسلاً) : منصوب بمحذوف دل عليه «أوحينا» ، أي: أرسلنا رسلاً، أو يفسره ما بعده، أي: قصصنا عليك رسلاً، و (رسلاً مبشرين) : منصوب على البدل، أو على المدح، أو بإضمار أرسلنا، أو على الحال الموطئة لما بعده، كقولك: مررت بزيد رجلاً صالحاً.
يقول الحق جل جلاله: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا محمد كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ولم يكن ينزل عليهم الكتاب جملة واحدة، كما سألك أهل الكتاب تعنيتًا، بل كان ينزل عليهم الوحي شيئًا فشيئًا، فأمرك كأمرهم. وقدَّم نوحًا عليه السلام لأنه أبو البشر بعد آدم، وأول نبي من أنبياء الشريعة، وأول نذير على الشرك، وأول رسول عُذبت أمته بدعوته، وأطول الأنبياء عُمرًا، وجُعلت معجزته في نفسه، فإنه عمَّر ألف سنة، ولم تنقص له سن، ولم تنقص له قوه، ولم تشب له شعرة، ولم يبالغ أحد في تأخير الدعوة ما بالغ هو عليه السلام، ولم يصبر أحدٌ على أذى قومه ما صبر هو، كان يُشتم ويُضرب حتى يغمى عليه.
ثم قال تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ أي: الأحفاد، وهم أنبياء بني إسرائيل، وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ، وإنما خصهم بالذكر مع اشتمال النبيين عليهم تعظيمًا لهم، فإن إبراهيم أولُ أُولي العزم منهم، وآخرهم عيسى عليه السلام، والباقون أشراف الأنبياء ومشاهيرهم، وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً أي: كتاب الزبور، أو زُبورًا أي: صحفًا متعددة، وأرسلنا رُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ أي: من قبل هذه السورة، أو قبل هذا اليوم، وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ، وفي الحديث:
«عددُهم ثلاثمائة وأربعة عشر» ، وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً حقيقيًا، خُصَّ به من بين الأنبياء، وزاد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالرؤية مع الكلام.
قال الورتجبي: بادر موسى عليه السلام من بين الأنبياء لسؤال الرؤية، فأوقفه الحق في مقام سماع كلامه، ومنعه من مشاهدة رؤيته صرفًا، وتحمل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أثقال السر بمطايا أسراره، ولم يسأل مشاهدة الحق جهرًا بالانبساط، فأوصله الله إلى مقام مشاهدته، ثم أسمعه كلامه بلا واسطة ولا حجاب. قال تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَآ أَوْحى مَا كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى
. هـ. وقال ابن عطية: كلامه تعالى لموسى دون تكييف ولا تحديد، وكما أنَّ الله تعالى موجود لا كالموجودات معلوم لا كالمعلومات، فكذلك كلامه لا كالكلام. هـ.
ثم ذكر حكمة إرسال الرسل فقال: أرسلنا رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ بعث الرُّسُلِ فيقولون: لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً ينبهنا ويعلمنا ما جهلنا من أمر توحيدك والقيام بعبوديتك،
فقطع عذر العباد ببعث الرسل، وقامت الحجة عليهم، وفى الحديث عنه- عليه الصلاة والسلام:«مَا أحدٌ أغيرَ مِنَ الله، ولذلكَ حرَّم الفواحِشَ ما ظهر منها وما بَطَنَ، وما أحدٌ أحبَّ إليهِ المدحُ من الله، ولذلكَ مدَحَ نفسَهُ، وما أحَدٌ أحبَّ إليهِ العذرُ مِنَ الله تعالى، ولذلِكَ أرسَلَ الرَّسلِ وأنزَلَ الكُتبَ» .
وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً لا يغلب، فلا يجب عليه شيء، حَكِيماً فيما دبر من النبوة، وخص كل نبي بنوع من الوحي والإعجاز على ما يليق به في زمانه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: علماءُ هذه الأمة كأنبياء بني إسرائيل، العارفون منهم كالرسل منهم، قال ابن الفارض رضي الله عنه:
فَعَالِمُنَا منهم نبي، ومَن دَعَا
…
إلى الحقِّ منّا قَامَ بالرسُلِيّه «1»
وعارِفنا في وقتِنا الأحمَديُّ من
…
أولي العزمِ منهم آخِذٌ بالعَزِيمَه
فإنهم يشاركونهم في وحي الإلهام، ويحصل لهم المكالمة مع المشاهدة، فيسمعون من الحق كما ينطقون به. كما قال الششتري:
أنَا بالله أنطق
…
ومن الله أسمَع
فتارة يسمعون كلامه بالوسائط، وتارة من غير الوسائط، يعرف هذا أهل الفن من أهل الذوق، وشأن مَن لم يَبلُغ مقامهم: التسليم.
إن لم ترَ الهلالَ فسَلِّم
…
لأناس رَأوه بالأبصَارِ
وفي الورتجبي: وإن الله تعالى إذا أراد أن يُسمع كلامه أحدًا من الأنبياء والأولياء يعطيه سمعًا من أسماعه، فيسمع به كلامه، كما حكى- عليه الصلاة والسلام عنه- تعالى-، قال:(فإذا أحببتُه كنت سمعه....) ، الحديث.
أسمعه كلامه، وليس هناك الحروف والأصوات، بل أسمعه بحرف القدرة وصوت الأزلية، الذي هو منزه عن همهمة الأنفاس وخطرات الوسواس، وليس في ولاية الأزل من رسوم أهل الآجال شيء، حتى هناك السامع والمسمع واحد من حيث المحبة، لا من حيث الجمع والتفرقة. انتهى كلامه.
واعلم أن أهل الجمع لا يشهدون إلا متكلمًا واحدًا، قد انتفى من نظرهم التعدد والاثنينية، غير أنهم يفرقون بين كلام القدرة وكلام الحكمة، كلام القدرة يبرز من غير اختيار، بل يكون المتكلم به مأخوذًا عنه، غائبًا عن اختياره،
(1) فى الأصول: بالرسالة. قلت: والرسلية: تأدية الرسالة.