الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ارْحَمْ بُنَيَّ جَميعَ الخلقِ كُلِّهمُ
…
وانْظُرْ إليْهمْ بعين الحِلمِ والشّفَقَهْ
وَقَّرْ كَبيرَهُم وارْحَمْ صغِيرَهُمْ
…
وَراع في كلّ خلق حقّ مَنْ خَلَقَهْ «1»
وبالله التوفيق.
ولما قال ابن صوريا للنبى صلى الله عليه وسلم: يا محمد ما جئت بشئ نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك لها فنزل قوله تعالى:
[سورة البقرة (2) : آية 99]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَاّ الْفاسِقُونَ (99)
يقول الحق جل جلاله: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا محمد آياتٍ واضحات، مشتملة على علوم غيبية، وأخبار نبوية، وشرائع محكمة، وأنوار قدسية، وأسرار جبروتية، وما يجحدها ويكفر بها إلا المتمرد في الكفر والطغيان، الخارج عن الطاعة والإيمان، فالفسق، إذا استعمل في نوع من المعاصي، دلّ على أعظمه وأقبحه، وهو هنا الكفر، والعياذ بالله.
الإشارة: اعلم أن العبد إذا سبقت له من الله العناية، ألقى الله في قلبه التصديق والهداية، من غير أن يحتاج إلى علامة ولا آية، بل يكشف له الحق تعالى عن سر الخصوصية وأنوارها، فيشهد سره لصاحبها بالتقويم، وتخضع له روحه بالتعظيم، فتبدو له أنوار الإيمان وتشرق عليه شموس العرفان، من غير توقف على دليل ولا برهان، بخلاف من سبق له الحرمان، فلا ينجح فيه دليل ولا برهان، والعياذ بالله من الخذلان.
ولما ذَكّر النبي صلى الله عليه وسلم اليهود في شأن العهد الذي أخذه الله عليهم فيه، قال مالك بن الصيف: والله ما عهد إلينا في محمد عهدٌ ولا ميثاق، نزل:
[سورة البقرة (2) : آية 100]
أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100)
قلت: الهمزة للإنكار، والواو للعطف على محذوف تقديره: أَكفروا بالآيات وكلما عاهدوا عهدا، وكُلَّما منصوب على الظرفية، وهي متضمنة معنى الشرط فتفتقر للجواب، وهو العامل فيها. والنبذ: الطرح، لكنه يغلب فيما ينسى، قاله البيضاوي.
(1) نسبهما الشيخ المفسر فى إيقاظ الهمم إلى الحسن الحراني.
يقول الحق جل جلاله في شأن اليهود والإنكار عليهم: أَوَكُلَّما أعطوا عهداً وعقدوه على أنفسهم طرحه فَرِيقٌ مِنْهُمْ؟ فقد أعطوا العهد أنهم إن أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم ليؤمنن به ولينصرنه، فلما أدركوه نبذوا ذلك العهد ونسوه. وكذلك أعطوا العهد للنبى صلى الله عليه وسلم ألا يعاونوا المشركين عليه، فنبذه بنو قريظة والنضير، ولم ينقضه جميعهم بل فريق منهم، وهم الأكثر، ولذلك قال: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، فالأكثر هم الناقضون للعهود، المجاوزون للحدود. والله تعالى أعلم.
الإشارة: نقض العهد مع الله أو مع عباده من علامة النفاق، ومن شيم أهل البعاد والشقاق، والوفاء بالعهد من علامة الإيمان، ومن شيم أهل المحبة والعرفان. قال تعالى في صفة المفلحين: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ، ولا سيما عهود الشيوخ أهل التمكين والرسوخ. فمن أخذ عقد الصحبة مع الشيخ الذي هو أهل للتربية فليحذر مِنْ حَلّ العقدة بينه وبينه، فإنَّ ذلك يقطع الإمداد، ويوجب الطرد والبعاد، والالتفات إلى غيره تسويس لبذرة الإرادة، وموجب لقطع الزيادة والإفادة، ثم إن الانجماع على الشيخ، وقطع النظر والالتفات إلى غيره هو سبب للكون- كذلك- مع الله، فبقدر الانقطاع إلى الشيخ يحصل الانقطاع إلى الله، وبقدر ترك الاختيار وسلب الإرادة مع الشيخ يحصل كذلك مع الله، ويقدر الوفاء بعهود شيوخ التربية يحصل الوفاء بعهود حقوق الربوبية. فمن كانت غيبته في الشيخ أقوى، وانحياشه أليه أكثر، وجمعه عليه أدوم، كان كذلك مع ربه، وكذلك التعظيم والأدب، والله يعامل العبد على حسب ذلك.
قال الشيخ زرّوق رضي الله عنه: (ولا تنتقلْ عنه، ولو رأيت من هو أعلى منه، فتحرمَ بركة الأول والثاني) ، ولذلك كان المشايخ يمنعون أصحابهم من صحبة غيرهم، بل من زيارتهم، وأنشدوا:
خُذْ مَا تَراهُ ودَعْ شَيْئاً سَمِعتَ بِهِ
…
في طلْعَةِ البدرِ ما يُغنيكَ عن زُحَلِ
وحاصل أمر الزيارة لغير شيخه أن فيه تفصيلاً: فمن كَمُل صدقه، وتوفر عقله، بحيث إذا زار لا يستنقص شيخه، ولا الذي زاره، جازله أن يزور من شاء، ومن لم يكمل صِدقُهُ وعقله، بحيث إذا زار: إما يستنقص شيخه، أو الشيخ الذي زاره، فليكف عن زيارة غير شيخه. وقال محيي الدين بن العربي: ويجب على المريد أن يعتقد في شيخه أنه عالم بالله، ناصح لخلق الله، ولا ينبغي له أن يعتقد في شيخه العصمة. وقد قيل للجنيد: أيزني العارف؟
فقال: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً. وصحب تلميذ شيخاً، فرآه يوماً قد زنا بامرأة، فلم يتغير من خدمته، ولا أخلّ في شيء من مرسومات شيخه، ولا ظهر منه نقص في احترامه. وقد عرف الشيخ أنه رآه، فقال له يوماً: