الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى عن الطمع في الخلق، وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ، وأفرِدُوني في سركم حتى أفتح لكم الباب، وأدخلَكم مع الأحباب.
الإشارة: معاملة الأبدان مؤقتة بالأماكن والأزمان، ومعاملة القلوب أو الأرواح غير مؤقتة بزمان مخصوص، ولا مكان مخصوص، فحجَ القلوب، الأزمنةُ كلها له ميقات، والأماكن كلها عرفات، حج القلوب هو العكوف في حضرة علاّم الغيوب، وهي مُسَرْمَدَةٌ على الدوام على مَرِّ الليالي والأيام، فكل وقت عندهم ليلة القدر، وكل مكان عندهم عرفةُ المشرَّفةُ القدر، وأنشدوا:
لولا شهودُ جمالكم في ذاتي
…
ما كنتُ أَرْضَى ساعة بِحَياتي
ما ليلةُ القدرُ الْمُعَظَّمُ شأنُها
…
إلَاّ إذا عَمَرَتْ بكُم أوقَاتِي
إنَّ المحبَّ إذا تمكَّنَ في الهَوَى
…
والحب لم يَحْتَجْ إلى ميقاتِ
وقال آخر «1» :
كُلُّ وقتٍ مِنْ حَبيبيِ
…
قدره كألف حجة
فازَ مَنْ خلَّى الشَّوَاغِلْ
…
وَلِموْلَاه تَوَجَّهْ
فمَنْ فَرض على قلبه حجَّ الحضرة فليلتزم الأدب والنظرة، والسكوتَ والفكرة، قال تعالى وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً فلا رفث ولا فسوقَ ولا جدال ولا مراء، إذ مبنى طريقهم على التسليم والرضى، وما تفعلوا من خير فليس على الله بخفي. وتزودوا بتقوى شهود السَّوَى، فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى، وجِمَاعُ التقوى هي مخالفة الهَوى، ومحبة المولَى، فهذه تقوى أولي الألباب الذين صفَتْ مِرآة قلوبهم، فأبصروا الرشد والصواب. وبالله التوفيق.
ثم أباح الحق تعالى التجارة فى مواسم الحج، فقال:
[سورة البقرة (2) : الآيات 198 الى 199]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
قلت: (أن تبتغوا) : على إسقاط حرف الجر، أيْ: في أن تبتغوا، وسبب نزول الآية: أن عُكاظاً ومَجَنّة وذا المجاز- أسماء مواضع- كانت أسواقاً في الجاهلية يعمرونها في مواسم الحج، وكانت معايشهم منها، فلما جاء الإسلام تأثَّمُوا وتحرجوا أن يتجروا فيها، فقال لهم الحق جل جلاله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي: إثم أو ميل
(1) وهو الششترى. [.....]
عن الصواب، في أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أي: عطاء ورزقاً تستفيدونه من التجارة في مواسم حجكم، إذا خلَصَتْ نيتكم، وغلب قصدُ الحج على التجارة.
وهاهنا قاعدةٌ ذكرها الغزالي في الإحياء، وحاصلها: أن العمل إذا تمحَّض لغير الله فهو سبب المقت والعقاب، وإذا تمحض لله خالصاً فهو سبب القرب والثواب، وإذا امتزج بشوْب من الرياء أو حظوظ النفس فينظر إلى الغالب وقوة الباعث فإن كان باعث الحظ أغلب، سقط، وكان إلى العقوبة أقرب، لكن عقوبته أخف ممن تجرد لغير الله، وإن كان باعث التقرب أغلب، حُط منه بقدر ما فيه من باعث الحظ، وإن تساويا تقاوماً وتساقطاً وصار العمل لا له ولا عليه.
ثم قال: ويشهد لهذا إجماعُ الأمة على أن مَنْ خرج حاجّاً ومعه تجارة صحَّ حجه وأُثيب عليه. ثم قال:
والصواب أنْ يقال: مهما كان الحج هو المحرّك الأصلي، وكان غرضُ التجارة كالتابع، فلا ينفك نفس السفر عن ثواب، ثم طُرِّد هذا الاعتبار في الجهاد باعتبار الغنيمة، يعني: يُنْظر لغالب الباعث وخُلوص القصد، وكذلك الصوم للحِمْية والثواب، ينظر لغالب الباعث.
قلت: وتطَّرد هذه القاعدة في المعاملات كلها، وجميع الحركات والسكنات والحِرَف وسائر الأسباب، فالخالص من الحظوظ مقبول، والمتمحض للحظوظ مردود، والمَشُوب يُنظر للغالب كما تقدم.
وقد ذكر شيخ المشايخ سيدي أبو الحسن الشاذلى رضي الله عنه قاعدة أخرى أدقّ من هذه فقال: إذا أكرم الله عبداً في حركاته وسكناته، نصَب له العبودية لله وستر عنه حظوظ نفسه، وجعله يتقلّب في عبوديته، والحظوظ عنه مستورة، مع جَرْي ما قُدِّر له، ولا يلتفت إليها لأنها في معزل عنه، وإذا أهان الله عبداً في حركاته وسكناته، نصب له حظوظ نفسه، وستر عنه عبوديته، فهو يتقلّب في شهواته، وعبودية الله عنه بمعزلِ، وإن كان يجري عليه شيء منها في الظاهر، قال: وهذا باب من الولاية والإهانة. وأما الصِّدِّيقية العظمى، والولاية الكبرى، فالحظوظ والحقوق كلها سواء عند ذوي البصيرة لأنه بالله فيما يأخذ ويترك. هـ.
الإشارة: العبد لا يستغني عن طلب الزيادة، ولو بلغ من الكمال غاية النهاية، فالقناعة من الله حرمان، واعتقاد بلوغ النهاية نقصان، فليس عليكم جناح أيها العارفون أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن ربكم زيادة في إيقانكم، وترَقِّياً في معانيكم، إذ كمالات الحق لا نهاية لها، وأسرار الذات لا إحاطة بها، قال تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً. والله وليّ التوفيق.