الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإن شئت قلت: قد نرى فكرتك أيها العارف في سماء المعاني، غائباً في شهود الأواني، فلنولينك قبلة ترضاها، وتتلذذ بشهود جمالها وسناها، وهي الحضرة المطهرة التي هي صلاة القلوب، فولّ وجهك ووجهتك إلى تلك الحضرة، وحيثما كنت فولّ وجهك شطره، ودم على صلاة الفكرة والنظرة، فهي صلاة العارفين، ومنتهى امل القاصدين، وبالله التوفيق.
ولمّا تحوّلت القبلة إلى الكعبة غضبت اليهود، حيث ترك قبلتهم، مكابرة وعناداً، وقالوا: لو بقي على قبلتنا لرجونا أن يكون هو النبي المبعوث في آخر الزمان فنتبعه، فردَّ الله عليهم وكذبهم فقال:
[سورة البقرة (2) : الآيات 145 الى 147]
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
قلت: (ولئن) اللام موطِّئة للقسم، و (إن) شرطية، و (أتيت) فعل الشرط، و (ما تبعوا) جواب القسم المحذوف سد مسد جواب الشرط. قال في الألفية:
واحذِف لَدَى اجتماع شرطٍ وقسمْ
…
جوابَ ما أَخَّرْتَ فَهْوَ مُلْتَزَمْ
يقول الحق جل جلاله: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِن أحبار اليهود لَيَعْلَمُونَ أن التحول إلى الكعبة حق مِنْ رَبِّهِمْ لِمَا يجدون في كتابهم أنه يصلي إلى القبلتين، وأن عادته تعالى تخصيص كل أمة بشريعة، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ من التعنت والعناد، وإنما يمهلهم ليوم المعاد، والله لئن أتيتهم بكل حجة وبرهان على صحة التوجه إلى الكعبة ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ لأنهم ما تركوا قبلتك لشبهة تُزيلُها الحجة، وإنما خالفوك مكابرة وعناداً. وقد طمعوا أن ترجع إلى قبلتهم، ولست بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ أبداً، بل لهم قبلتهم صخرة بيت المقدس، وللنصارى قبلتهم مطلع الشمس، وليس بعضهم بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ لتصلب كل حزب بما هو فيه، وإن كان على خطأ وفساد لأن مفارقة العوائد هنا صعب على النفوس إلا مَن سبقت له العناية.
وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ الباطلة وإراءهم الزائفة فَرْضاً وتقديراً مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ الواضح والوحي الصحيح إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ، لكنك معصوم، فلا يتصور اتباعك لهم أبداً.
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ أي: اليهود يَعْرِفُونَهُ أي: الرسول- عليه الصلاة والسلام وإن لم يتقدم ذكره لدلالة الكلام عليه أو القرآن أو التحويل، كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ لا يشكُّون في صحة رسالته كما لا يشكون في معرفة أبنائهم. وعن عمر رضي الله عنه أنه سأل عبد الله بن سلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:(أنا أعلَمُ بِه مِنِّي بِابني، قال له: ولِمَ؟ قال: لأنِّي لستُ أشُكُّ في محمدٍ أنه نبيُّ الله. وأمَا ولَدِي فلعلَّ والدتَهُ قدْ خَانَتْ) .
وبعد حصول هذه المعرفة لهم جحدوه وكتموا صفته، إلَاّ مَن عصمه الله بالإيمان كعبد الله بن سلام وأصحابه- فقد كتم فريق منهم الحق وهم أحبارهم، وهم يعلمون أنه حق حسداً وعناداً.
هذا الذي أنت عليه يا محمد هو الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي: من الشاكين في أنه الحق، أو في كتمانهم الحق عالمين به. والخطاب مصروف للسامعين لا للنبى صلى الله عليه وسلم لأنه غير متوقع منه، وإنما المراد تحقيق الأمر، وإنه بحيث لا يشك فيه ناظر، أو أمر الأمة باكتساب المعارف المزيحة للشك على الوجه الأبلغ. قاله البيضاوي.
الإشارة: مما جرت به سُنة الله تعالى في خلقه أن أهل الحقيقة منكورون عند أهل الشريعة، أو تقول: علماء الباطن منكورون عند علماء الظاهر، يقابلونهم بالإذاية والإنكار، مع أنهم يعلمون أن الحقيقة حق من ربهم، وأن علم الباطن حق لقوله- عليه الصلاة والسلام:«إن من العلم كهيئة المكنون، لا يعلمه إلا العلماء بالله، فإذا سمعه أهل الغرة بالله أنكروه عليهم» . أو كما قال- عليه الصلاة والسلام، وقال صلى الله عليه وسلم:«لِكلِّ آيةٍ ظَاهرٌ وبَاطِنٌ وحَدٍّ ومَطْلَع» .
وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ فجزاؤهم الحرمان عن لذة الشهود والعيان، فيقال لأهل الباطن: ولئن أتيتهم بكل آية وبرهان ما تبعوا وجهتك التي توجهت إليها لأنها مَنُوطة بموت النفوس وحط الرؤوس ودفع الفلوس، وخرق العوائد لاكتساب الفوائد، ومفارقة الأوطان والغيبة عن الأهل والولدان، وما أنت أيها المريد بتابع وجهتهم التي توجهوا إليها، ولئن اتبعت أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا ظهر لك من علم التحقيق: إنك إذاً لمن الظالمين لنفوسهم.
الذين آتيناهم الكتابَ مِن علماء الشريعة يعرفون علم الحقيقة، كما يعرفون أبناءهم، أي: يقرون به في الجملة وينكرون وجود أهله مخصوصين، وقد يتحققون به ويكتمون الحق حسداً، وهم يعلمون وجود خصوصيته، فيقال