الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم ذكر الحق تعالى الوقوف بعرفة، والرجوع إلى المزدلفة والمشعر الحرام، فقال:
فَإِذا أَفَضْتُمْ
…
قلت: (أفضتُم) : دفعتم، وأصل الإفاضة: الدفع بقوة، من فاض الماء إذا نبَع بقوة، ثم استُعمل في مطلق الاندفاع على سبيل المبالغة. و (عرفات) فيها الصرف وعدمه، كأذرعات. وسمى عرفات لقول إبراهيم الخليل عليه السلام لجبريل حين علَّمه المناسك: قد عرفتُ. أو لمعرفة آدم حواءَ فيها. والكاف في (كما هداكم) تعليلية، و (ما) مصدرية، أي: واذكروه لأجل هدايته لكم. و (إن كنتم) مخففة، واللام فارقة، وقوله:(أو أشد) نعت لمصدر محذوف، أي: أو ذكراً أشد
…
الخ.
يقول الحق جل جلاله: فإذا وقفتم بعرفة، وأفضتم منها، فانزلوا المزدلفة وبيِتُوا بها، فإذا صليتم الصبح بغلس فقفوا عند الْمَشْعَرِ الْحَرامِ، وهو جبل في آخر المزدلفة، واذكروا الله عنده بالتهليل والتكبير والتلبية إلى الإسفار، هكذا فعل الرسول- عليه الصلاة والسلام، وَاذْكُرُوهُ لأجل ما هداكم إليه من معالم دينه ومناسك حجه، وغير ذلك من شعائر الدين، أو فاذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة، وقد كنتم من قبل هذه الهداية لَمِنَ الضَّالِّينَ.
وكانت قريش لا تقف مع الناس ترفعاً عليهم، بل تقف بالمزدلفة، فأمرهم الحق جل جلاله بالوقوف مع الناس، فقال لهم: ثُمَّ أَفِيضُوا يا معشر قريش مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ بأن تَقْضُوا معهم، وتفيضوا من حيث أفاضوا، وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ في تغييركم مناسك إبراهيم وإسماعيل- عليهما السلام إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لكم، رَحِيمٌ بكم إن تبتم ورجعتم واتبعتم رسولكم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 200 الى 202]
فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202)
فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ وفرغتم من حجكم فَاذْكُرُوا اللَّهَ ذكراً كثيراً كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أو ذكراً أَشَدَّ ذِكْراً منهم، حيث كنتم تَذْكُرونهم عند فراغ حجكم بالمفاخَرة، وكانوا إذا فرغوا من حجهم وقَفُوا بِمنى، بين المسجد والجبل، فيذكرون مفاخر آبائهم، ومحاسن أيامهم، فأُمِرُوا أن
يُبدلوا ذلك بذكر الله، وذكر إحسانه إليهم، وشكر ما أسداه إليهم من مفاخر الدنيا والآخرة، إن آمنوا واتبعوا رسوله صلى الله عليه وسلم.
الإشارة: إذا وقَفَت القلوبُ على جَبل عرفة المعارف، وتمكنت من شهود جمال معاني تلك الزخارف، حتى صارت تلك المعاني هي روحَها وسرَّها، وإليها مآلها ومسيرُها، أُمرتْ بالنزول إلى أرض العبودية، والقيام بوظائف الربوبية، شكراً لما هداها إليه من معالم التحقيق، وما أبان لها من منار الطريق، وإن كانت من قبله لمن الضالين عن الوصول إلى رب العالمين. ثم يؤمرون بمخالطة الناس بأشباحهم، وانفرادهم عنهم بأرواحهم. أشباحُهم مع الخلق تسعى، وأرواحهم في الملكوت ترعى، فإذا وقع منهم ميل أو سكون إلى حِسّ فليستغفروا الله إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. ثم يقال لهم: فإذا قضيتم مناسككم، بأن جمعتم بين مشاهدة الربوبية في باطنكم، والقيام بوظائف العبودية في ظاهركم، فاذكروا الله على كل شيء، وعند كل شيء، وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، حتى لا يبقى من الأثر شيء، كما كنتم تذكرون آباءكم وأبناءكم، في حال غفلتكم، بل أشد ذكراً وأعظم وأتم، والله ذو الفضل العظيم.
ثم بين الحق تعالى مقاصد الناس، وهممهم في طلبهم وسعيهم، فقال:
فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ
…
يقول الحق جل جلاله في بيان مقاصد الناس وهممهم في طلبهم في الحج وغيره: فَمِنَ النَّاسِ من قصرت نيته وانحطت همته، يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا ما تشتهيه نفوسنا من حظوظها وشهواتها، وليس له فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ أي: نصيب، لأنه عجَّل نصيبه في الدنيا. «إن الله يرزق العبدَ على قدر نيته» وَمِنْهُمْ من أراد كرامة الدنيا وشرف الآخرة يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حالة حَسَنَةً كالمعرفة، والعافية، والمال الحلال، والزوجة الحسنة، وجميع أنواع الجمال، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً كالنظرة، والحُور العين، والقصور، وجميع أنواع النعيم، وَقِنا عَذابَ النَّارِ بالعفو والمغفرة، وقال سيدنا علي- كرّم الله وجهه-:(الحسنة في الدنيا: المرأة الصالحة، وفي الآخرة: الحَوْرَاء. وعذاب النار في الدنيا: المرأة السوء) وقال الحسن: (الحسنة في الدنيا: العلم والعبادة، وفي الآخرة: الجنة) . وَقِنا عَذابَ النَّارِ: احفظنا من الشهوات والذنوب المؤدية إلى النار، وهذه كلها أمثلة للحالة الحسنة.