الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، فيثيب المحسن، ويعاقب المسيء، أو:(بصير) بأحوال المتقين.
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ. وفي ترتيب السؤال على مجرد الإيمان دليل على أنه كاف في استحقاق المغفرة والاستعداد لها.
ثم وصف المتقين بقوله: الصَّابِرِينَ على أداء الأمر واجتناب النهي، وفي البأساء والضراء وحين البأس، وَالصَّادِقِينَ في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، فاستوى سرهم وعلانيتهم، وَالْقانِتِينَ أي: المطيعين، وَالْمُنْفِقِينَ أموالهم في سبيل الله، وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ لأن الدعاء فيها أقرب إلى الإجابة لأن العبادة حينئذٍ أشق، والنفس أصفى، والروح أجمع، وَلَا سيما للمتهجدين.
قيل: إنهم كانوا يُصلُون إلى السحر، ثم يستغفرون ويدعون، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:(إِنَّ اللهَ تعالى يقول: إني لأهُمُّ بأهل الأرض عذاباً، فإذا نظرت إلى عُمَّار بيوتي، وإلى المتهجدين، وإلى المتحابين فِيَّ، وإلى المستغفرين بالأسحار، صرفت عنهم العذاب) .
وقال سفيان: إن لله ريحاً يقال لها الصيحة، تهبُّ وقتَ السحر، تحمل الأذكار والاستغفار إلى الملك الجبار.
قال: وبلَغنا أنه إذا كان أول الليل، نادى مناد: ألا ليقم القانتون، فيقومون يُصلون إلى السحَر، فإذا كان وقت السحر، ينادي منادٍ: أين المستغفرون بالأسحار؟ فيستغفر أولئك، ويقوم آخرون، ويُصلون، فيلحقون بهم، فإذا طلع الفجر، نادى مناد: ألا ليقم الغافلون، فيقومون من فرشِهم كالموتى إذا نُشروا من قبورهم.
الإشارة: للذين اتقوا شهودَ السّوى عند ربهم جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم، وأصناف الحكم، مطهرة من العلل، منزهة من الخلل، تهب عليهم نسيم الرضوان، تحمل الرَّوُحَ والريحان، مخلدون في نعيم الشهود والعيان، والله بصير بعباده المخلصين، المنزَّهين من العيوب، المبرّئين من درن الذنوب، الصابرين على دوام المجاهدة، والصادقين في طلب المشاهدة، والقانتين لأحكام العبودية، والمنفقين أنفسَهُمْ ومُهَجَهم في طلب مشاهدة أنوار الربوبية، والمستغفرين من شهود الأغيار، وخصوصاً إذا هبّ نسيم الأسحار، فإن كثيراً من العباد والزهاد شغلتهم حلاوة نسيم الأسحار عن مطالعة أسرار الجبار، وهى أسرار التوحيد التي أشار إليها بقوله:
[سورة آل عمران (3) : آية 18]
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
قلت: (قائماً) : حال مِن (الله) ، وإنما جاز من بعض المعطوفات لعدم اللبس، كقوله: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً
…
، ولا يجوز: جاء زيد وعمرو راكباً لعدم القرينة، أو مِن (هو) ، والعامل الجملة لأنه حال مؤكدة، أي: تفرد قائماً، أو حقه قائماً، (بالقسط) أي: العدل، و (إن الدين) : جملة مستأنفة مؤكدة للأولى، أي: لا دين مرضى عند الله سوى الإقرار بالشهادة والدخول فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ومن قرأ بالفتح فهو بدل من (أنه) ، بدل الكل، إن فسر الإسلام بالإيمان، وبدل الاشتمال إن فسر بالشريعة.
يقول الحق جل جلاله: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي: بيَّن وحدانيتَه بنصب الدلائل الدالة عليها، وإنزال الآيات الناطقة بها، أو بتدبيره العجيب وصنعته المتقنة وأموره المحكمة، وفي ذلك يقول القائل:
يَا عَجَباً كيف يُعْصَى الإلهُ
…
أم كيف يَجْحَدُه الجاحدُ؟!
وللهِ في كل تحريكةٍ
…
وتسكينةٍ أبداً شاهدُ
وفي كُلِّ شَيءٍ له آيةٌ
…
تَدُلُّ على أنَّه واحِدُ «1»
وقيل لبعض العرب: ما الدليل على أن للعالم صانعاً؟ فقال: البعرة تدل على البعير، وآثار القدم تدل على المسير، فهيكل علوي بهذه اللطافة، ومركز سفلي بهذه الكثافة، أمَا يدلان على الصانع الخبير؟! وَشهدت الْمَلائِكَةُ أيضاً بالإقرار بالوحدانية والإخبار بها، وَأُولُوا الْعِلْمِ وهم: الأنبياء والعلماء بالله، بالإيمان بها والاحتجاج عليها، شبه ذلك في البيان والكشف بشهادة الشاهد. وفيه دليل شرف أهل العلم وفضلهم، حيث قرن شهادتهم بشهادته لأن العلم صفة الله العليا ونعمته العظمى، والعلماء أعلام الإسلام، والسابقون إلى دار السلام، وسُرج الأمكنة وحجج الأزمنة.
وعن جابر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ساعة من عالم يتّكىء على فِرَاشِهِ، ينظُرُ في علمهِ، خَيرٌ مِنْ عِبَادَة العَابِد سَبعينَ عاماً» . وعن معاذ قالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشيةٌ، ومدارستَه تسبيحٌ، والبحث فيه جهادٌ، وتعليمه مَنْ لا يعلمه صدقةٌ، وتذكُّره في أهله قُرْبَة» . ثم قال في آخر الحديث في فضل أهل العلم: «وتَرْغَبُ الملائكة في خُلتِهم، وبأجنحتها تمسحُهم، وفي صلاتها تستغفر لهم، وكلُّ رطب ويابس يستغفر لهم. حتى حيتان البحر وهوامه، وسباع الأرضين وأنعامها، والسماء ونجومها، ألا وإن العلم حياةُ القلوب من العمى، ونورُ الأبصار من الظلم، وقوة الأبدان من الضعف، يبلغ بالعبد منزل الأحرار ومجالسة الملوك، والفكر فيه يُعْدل بالصيام، ومدارسته بالقيام، وبه يُعرف الحلال والحرام، وبه تُوصلَ الأرحام، العلم إمام والعمل تابعه، يُلْهَمُه السعداء، ويحرمه الأشقياء» .
(1) الأبيات لأبى العتاهية، انظر ديوانه 122. وذكرها الأصبهانى فى محاضرات الأدباء 3/ 398 منسوبة للبيد.