الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عن طريق الله مَنْ آمَنَ بها، وتبع من جاء بها، تَبْغُونَها عِوَجاً أي:
طالبين لها اعوجاجاً، بأن تلبسوا على الناس، وتُوهموا أن فيها عوجاً عن الحق، بزعمكم أن التوراة لا تُنْسخ، وبتغيير صفة الرسول- عليه الصلاة والسلام، أو بأن تحرشوا بين المسلمين لتختلف كلمتهم، ويختل أمر دينهم، وأنتم شهداء على أنها حق، وأن الصد عنها ضلال، أو: وأنتم عُدول عند أهل ملتكم، يثقون بأقوالكم، ويستشهدونكم في القضايا، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فلا بد ان يجازيكم على أعمالكم، فإنه يُمهل ولا يُهمل.
كرَّر الخطاب والاستفهام مرتين مبالغة في التقريع ونفي العذر، وإشعاراً بأن كل واحد من الأمرين مستقبح في نفسه، مستقل باستجلاب العذاب. ولمَّا كان المنكَر عليهم في الآية الأولى: كفرهم، وهم يجهرون به، ختم بقوله:
وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ، ولمَّا كان في هذه الآية: صدهم المؤمنين عن الإسلام، وكانوا يخفونه ويحتالون فيه، قال: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. قاله البيضاوي.
الإشارة: كل من جحد وجود الخصوصية عند أهلها، وصد القاصدين للدخول فيها، استحق هذا العتاب بلا شك ولا ارتياب. والله تعالى أعلم.
ثم حذّر المؤمنين من الاستماع لهم، فقال:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 100 الى 102]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
يقول الحق جل جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، الخطاب عامٌ، والمراد: نفر من الأوس والخزرج، إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، وهو شاسُ بن قيس اليهودي، كان شيخاً كبيراً، وكان عظيمَ الكفر شديد الضغن على المسلمين، مرَّ بنفر من الأوس والخزرج، جلوساً يتحدثون، وكان بينهما عداوة في الجاهلية، فغاظه تآلفهم واجتماعهم، وقال: قد اجتمع ملأ بني قَيْلَة بهذه البلاد، فما لنا معهم قرار، فأمر شاباً من اليهود أن يجلس بينهم ويُذكِّرهم يوم بعاث- وهو يوم حرب كان بينهم في الجاهلية- ويُنشدهم بعض ما قيل فيه، وكان الظفرُ في ذلك اليوم للأوس، ففعل، وتنازع القوم وتفاخروا وتغاضبوا، وقالوا: السلاحَ السلاحَ، واجتمع من القبيلتين خلق عظيم، فتوجه إليهم رسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال:«أبدعْوَى الجَاهِليةِ وأنا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، بعدَ إذ أكْرَمَكْم اللهُ بالإسْلام، وقَطَعَ به عَنْكُم أمْرَ الجَاهِلِية، وألْفَ بَينكُم؟» فعلموا أنها نزغة من الشيطان وكيدٌ من عدوهم، فَأَلَقَوا السِّلاحَ، واستغفروا، وعانق بعضهم بعضاً، وانصرفوا مع الرسول- صلوات الله عليه وسلامه- فنزلت الآية.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً من اليهود يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ يُبيح بعضكم دماء بعض، كما كنتم في الجاهلية. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ الدالة على تحريم الدماء والشحناء، وَفِيكُمْ رَسُولُهُ الهادي إلى الصراط المستقيم، وهو إنكار وتعجُّبٌ من كفرهم، بعد اجتماع الأسباب الداعية إلى الإيمان، الصارفة عن الكفران، وإنما خاطبهم الله بنفسه بعد ما أمر الرسولَ بأن يخاطب أهل الكتاب إظهاراً لجلالة قدرهم، وإشعاراً بأنهم الأحقاء بأن يخاطبهم الله ويكلمهم، دون أهل الكتاب لبعدهم عن استحقاق مواجهة الخطاب من الكريم الوهاب. وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ ويتمسك بدينه فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لا عوج فيه وأصل الاعتصام: التمنع.
ثم حَضَّ على التقوى الكاملة والدوام على الإسلام، تنفيراً من الاستماع لمن يخرج عنها، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ، قال عليه الصلاة والسلام:«حق تقاته هو أن يُطاعَ فلا يُعْصَى طرفةَ عين، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر» . ولما نزلت قالوا: يا رسول الله من يقوى على هذا؟ وشق عليهم، فنزلت: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فنسختها. وقال مُقاتل: معناه: (اتقوا الله حق تقاته، فإن لم تستطيعوا فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) . وعن أنس ابن مالك، قال:(لا يتقي الله عبدٌ حق تقاته حتى يُخْزِن من لسانه)، وقيل:
ليست بمنسوخة لأنَّ مَنْ جَانَبَ ما نهى الله عنه، وفعل من الطاعة ما استطاع، فقد اتقى الله حق تقاته، فمعناها واحد. وسيأتي تحديد ذلك في الإشارة، إن شاء الله.
قال البيضاوي: وقيل: معنى (حق تقاته) : أن يُنزه الطاعة عن الالتفات إليها، وعن توقع المجازاة عليها، وفي هذا الأمر تأكيدٌ للنهي عن طاعة أهل الكتاب، وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي: لا تكونوا على حالةٍ سوى الإسلام، إلى أن يدرككم الموت. هـ. أماتنا الله على حسن الختام، مع السلامة والعافية على الدوام.
الإشارة: كما نهى الله عن طاعة من يرد عن الإيمان، نهى عن طاعة من يصد عن مقام الإحسان، كائناً ما كان، وكيف يرجع عن مقام التحقيق، وقد ظهرت معالم الطريق لمَن سبقت له العناية والتوفيق!. قال بعضهم:
والله ما رجع مَن رجع إلا من الطريق، وأما من وصل فلا يرجع أبدًا. إذ لا يمكن أن يرجع من عين اليقين إلى علمِ اليقين، أو من اليقين إلى الظن. ومن أراد الثبات على اليقين فليعتصم بحبل الله المتين، وهو صحبة العارفين، فمن اعتصم بهم فقد اعتصم بالله وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
ثم خاطب أهل الإحسان فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ بأن تغيبوا عما سواه، ولا تموتن إلا وأنتم منقادون لأحكام الربوبية، قائمون بوظائف العبودية. فهذه الآية خطاب لأهل الإحسان، وفَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ: خطاب لأهل الإسلام والإيمان. أو هذه لأهل التجريد، والثانية لأهل الأسباب، أو هذه لأهل الباطن،