الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإشارة: مدار صفاء المعاملة على تصفية اللقمة، فمن صفَّا طعمته صفت معاملته، ومن صفت معاملته أفضى الصفاء إلى قلبه، ومن خلط في لقمته تكدرت معاملته، ومن تكدرت معاملته تكدر قلبه، ولذلك قال بعضهم:(مَنْ أكَلَ الحلال أطاع الله، أحبَّ أم كَرِهَ، ومن أكل الحرام: عصى الله، أحبَّ أم كَرِه) وكذلك الواردات الإلهية، لا ترد إلا على من صفا مطعمه ومشربه، ولذلك قال بعضهم:(من لا يعرف ما يدخل بطنه لا يفرق بين الخواطر الربانية والشيطانية) .
وقال سيدى على الخواص رضي الله عنه: (اعلم أن المدد الذي لم يزل فياضاً على قلب كل إنسان ويتلون بحسب القلب، والقلب يتلون بحسبه هو بحسب صلاح الطعمة وفسادها) . هـ. فالذين يأكلون الحرام كالربا وشبهه، لا يقومون إلى معاملتهم للحق إلا كما يقوم المجنون الذي يلعب به الشيطان، ولا يدري ما يقول ولا ما يقال له، فقد حُرم لذيذ المناجاة وحلاوة خلوص المعاملات، فإن احتج لنفسه واستعمل القياس لم يُرْجَ فلاحُه في طريق الخواص، فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى، وطلب العفاف فقد عفا الله عما سلف. ومن عاد إلى ما خرج عنه من متابعة هواه، فنار القطيعة مثواه ومأواه.
ومن شأن الحق جل جلاله مع عباده: أن من طلب الزيادة في حس ظاهره محق الله نور باطنه، ومن حسم مادة زيادة الحس في ظاهره قوي الله مدد الأنوار في باطنه، (يَمْحَقُ الله الربا ويربى الصدقات)، أي: يُقَوِّي مدد ثواب الصدقات. (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كل كفّار أثيم) ، وإنما يحب كل مطيع منيب، وهو من آمن إيمان أهل التحقيق، وسلك مسلك أهل التوفيق. فلا جرم أنه ينخرط في سلك أهل العناية، ويسلك به مسلك أهل الولاية، (الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) .
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) حق تقاته، واتركوا ما بقي في باطنكم من بقايا الحس وأسبابه، إن كنتم طالبين إيمان أهل الشهود، والوصول إلى الملك المعبود. فإن لم تفعلوا ذلك فاعلموا أنكم في مقام البعد من حيث لا تظنون، معاندون وأنتم لا تشعرون. وإن رجعتم إلى ربكم فلكم رؤوس أموالكم، وهو نور التوحيد، لا تنقصون منه ولا تزيدون عليه، إلا إن أفردتم الوجهة إليه، وطلبتم الوصول منه إليه، فإن الله لا يُخيٍّب من أمَّل جُوده، ولا يردُّ من وقَف ببابه، بمنِّه وكرمه.
ثم ذكر حال المعسر، فقال:
[سورة البقرة (2) : الآيات 280 الى 281]
وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)
قلت: (كان) : تامة بمعنى حضر، وقرأ أُبَيّ وابنُ مسعود:(ذا عسرة) فتكون ناقصة، و (نظرة) : مبتدأ، والخبر محذوف، أي: فعليكم نظرة، أو فالواجب نظرة. وهو مصدر بمعنى الإنظار، وهو الإمهال، و (ميسرة) : فيه لغتان:
الفتح والضم، وهي مَفْعَلة من اليسر، فالضم لغة أهل الحجاز، والفتح لغة تميم وقَيْس ونَجْد.
يقول الحق جل جلاله: وإن حضر الغريم وهو معسر، فعليكم إنظاره، أي: إمهاله إلى زمان يسره ولا يحل لكم أن تُضَيِّقُوا عليه، وتطالبوه بما ليس عنده إن أقام البيِّنَةَ على عسره وَأَنْ تَصَدَّقُوا عليه برؤوس أموالكم ولا تطالبوه بها خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما في ذلك من الخير الجزيل والذكر الجميل.
روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَنْظَر مُعْسِراً، أو وَضَعَ عنه، أَظلَّه اللهُ في ظِلِّ عَرْشِه يوم لا ظِلَّ إِلا ظلّه» وقال- عليه الصلاة والسلام: «من أَحَبَّ أن تُستجاب دعوته، وتُكشف كُربتُه، فليُيسِّرْ على المعسر» .
وقال صلى الله عليه وسلم: «من أنْظَر معسراً كان له بكل يوم صدقةٌ بمثل ما أنظره به» . وقد ورد في فضل الدّين قوله- عليه الصلاة والسلام: «إن الله مع المدين حتى يقضي دَيْنه، ما لم يكن فيما يكره الله» . فكان عبد الله «1» يقول: «إني أكره أن أبيت ليلة إلا والله تعالى معي، فيأمر غلامه أن يأخذ بدين» .
وقد ورد الترغيب أيضاً في الإسراع بقضاء الدين دون مطل، قال صلى الله عليه وسلم «مَنْ مشَى إلى غَريمه بحقه، صلّت عليه دوابُّ الأرض ونُونُ الماء، وكتبت له بكل خُطوة شجرة في الجنة، وذنب يغفر له فإن لم يفعل ومطل فهو مُعْتَدِ» . وقال أيضا: «مطل الغَنِيِّ ظلم، وإذا أُتْبعَ أحدكم على مليىء فَلْيتْبَعْ» .
ثم قال تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، وهو يوم القيامة، فتأهبوا للمصير إليه بالصدقة وسائر الأعمال الصالحة، ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ جزاء ما أسلفت، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بنقص ثواب أو تضعيف عقاب. قال ابن عباس:(هذه آخر آية نزل بها جبريل، فقال: ضعها في رأس المائتين والثمانين من البقرة، وعاش بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً وعشرين يوماً) . وقيل: أحداً وثمانين، وقيل غير ذلك. والله تعالى أعلم.
الإشارة: وإن كان ذو عسرة من نور اليقين والمعرفة، فلينظر إلى أهل الغنى بالله، وليصحبهم ويتعلَّق بهم، وهم العارفون، فإنهم يغنونه بالنظر. وفي بعض الأخبار: أن الله رجالاً من نظر إليهم سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً. هـ. ولله رجال إذا نظروا أغنَوْا، وفي هذا المعنى يقول صاحب العينية:
فَشَمِّرْ، ولُذْ بالأَوْليَاءِ فَإنَّهُمْ
…
لَهُمْ مِنْ كِتَابِ الله تلْكَ الوقَائعُ
هُمُ الذُّخْرُ لِلمَلهُوفِ، والكَنْزُ لِلرَّجَا
…
وَمِنْهُمْ يَنَالُ الصَبُّ مَا هُوَ طامع
(1) هو راوى الحديث سيدنا عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.