الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويقول العلامة الآلوسى عند تفسير قوله تعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ.. «1» ليس ما نحن فيه- أي:
التفسير الإشارى- من هذا القبيل- أي: من قبيل التفاسير الباطنية- كما يزعمه المحجوبون لأن ذلك إنما يكون بإنكار أن يكون الظاهر مرادا لله تعالى، وقصر مراده سبحانه على هذه التأويلات، ونحن نبرأ إلى الله عز وجل من ذلك، فإنه كفر صريح، وإنما نقول: المراد هو الظاهر، وبه تعبد الله تعالى خلقه، لكن فيه إشارة إلى أشياء أخر لا يكاد يحيط بها نطاق الحصر، يوشك أن يكون ما ذكر بعضا منها) «2» . وسنقرأ فى مقدمة تفسير البحر المديد قول الشيخ ابن عجيبة (ولا يصح ذكره- أي التفسير الإشارى- إلا بعد تقرير الظاهر..) .
هل الإشارات تفسير
؟
التفسير بالمصطلح العلمي التقليدى لا يمكن تطبيقه على إشارات السادة الصوفية لأن الإشارات غير مرتبطة بالخط المنهجى للتفسير، والصوفي نفسه لا يقول بأن ما وقع له من مواجيد ومعان هو تفسير للقرآن، ولكنه قبس من إشراق، وفيض من فتح، لا يتعلق به حكم ولا يرتبط به واجب، ومن ثمّ فقد أطلق الصوفية على هذه المعاني (إشارات) كما فعل العلامة (ابن عجيبة) والعلامة الآلوسى. وإطلاق تسمية (التفسير) عليها يعتبر من قبيل العرف والمجاز. يقول الزركشي فى البرهان:(كلام الصوفية فى تفسير القرآن، قيل: إنه ليس بتفسير، وإنما هو معان ومواجيد يجدونها عند التلاوة)«3» .
الإشارات في البحر المديد:
أفصح الشيخ عن مراده من تفسيره حين قال: (مرادنا تربية اليقين بكلام رب العالمين) . وقد بسط المفسر الحديث فى إشاراته عن آداب السلوك، والأخلاق، والمقامات، والثمرات، وقدّم لنا من خلال ذلك منهجا تربويا صوفيا إسلاميا متكاملا، يسلكه من أراد أن تصفو روحه، وتزكو نفسه، ويحيا قلبه بنور معرفة الحق تعالى.
- ويلاحظ أن الشيخ ابن عجيبة لا ينظر إلى الخطابات الواردة فى القرآن على أنها موجهة إلى أقوام مخصوصين فحسب، وإنما يرى مع ذلك أن الخطاب بهذه الآيات مازال قائما، يوجه إلى الإنسان في كُلَّ عصر وأوان، يقول الشيخ رضى الله عنه:(إذا توجَّه الخطاب إلى طائفة مخصوصة، حمله أهل الفهم عن الله على عمومه، فإن الملك إذا عاتب قوماً بمحضر آخرين كان المراد بذلك تحذير لكل سامع) .
- والشيخ ابن عجيبة باعتباره صوفى يدعو إلى مقام الإحسان، فإن له قاعدة فى إشارته، يقول الشيخ عنها:
(اعلم أن قاعدة تفسير أهل الإشارة هي أن كل عتاب توجه لمن ترك طريق الإيمان، وأنكر على أهله، يتوجه مثله لمن ترك طريق مقام الإحسان، وأنكر على أهله) .
(1) الآية 41 من سورة المائدة.
(2)
روح المعاني 6/ 147.
(3)
راجع مناهل العرفان للزرقانى 2/ 78.
وهاكم بعض الأمثلة من إشارات الشيخ:
عند قوله تعالى وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ «1» . يقول الشيخ فى إشارة الآية: اعلم أن كثيراً من الناس يعتمدون على صحبة الأولياء، ويُطلقون عنان أنفسهم في المعاصي والشهوات، ويقولون: سمعنا من سيدي فلان يقول: مَن رآنا لا تمسه النار، وهذا غلط وغرور، وقد قال عليه الصلاة والسلام لابنته:«يا فاطمةَ بنتَ مُحمَّد لا أُغْنِي عَنْكِ من الله شيئاً اشتر نفسك من الله» وقال للذي قال: ادع الله أن أكون رفيقك في الجنة، فقال له «أعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بكَثْرةِ السُّجُود» .
وعند قوله تعالى: قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ «2» .
يقول الشيخ فى إشارة الآية: كل من أقامه الحقّ في وجهه، ووجهه إليها، فهو عامل لله فيها، قائم بمراد الله منها، وما اختلفت الأعمال إلا من جهة المقاصد، وما تفاوت الناس إلا من جهة الإخلاص، فالخلق كلهم عبيد للملك المجيد، وما وقع الاختصاص إلا من جهة الإخلاص، فمن كان أكثر إخلاصاً لله كان أولى من غيره بالله، وبقدر ما يقع للعبد من الصفاء يكون له من الاصطفاء، فالصوفية والعلماء والعباد والزهاد وأهل الأسباب على اختلاف أنواعهم، كلهم عاملون لله، ليس أحد منهم بأولى من غيره بالله، إلا من جهة الإخلاص وإفراد القلب لله. فمن ادعى الاختصاص بالله من غير هذه الوجهة فهو كاذب، ومن اعتمد على عمل غيره فهو مغرور، يقال له: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ.
وقد جاءت إشارات الإمام ابن عجيبة جامعة لدرر من المنظوم والمنثور، فقد ضمنها الشيخ أقوال مجموعة كبيرة من كبار الصوفية، كأبى يزيد البسطامي، والجنيد، والقشيري، والشاذلى، وأبى العباس المرسى، وابن عطاء السكندرى، وزروق، والدرقاوى، والبوزيدى، وغيرهم. كما أنه ذكر كثيرا من أشعارهم، كشعر ابن الفارض والجيلي والششترى، ونقل حكما كثيرة من حكم ابن عطاء السكندرى وغيره، كما نقل فى مواضع عديدة عن لطائف الإشارات للقشيرى، وعرائس البيان للشيرازى، وإحياء علوم الدين للغزالى، وغيث المواهب العلية لابن عباد، وبالتالى فقد حفل هذا التفسير بتراث جم من الفكر الصوفي.
(1) الآية 8 من سورة البقرة.
(2)
الآية 139 من سورة البقرة. [.....]