الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقيل: على المؤمنين لقوله: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً. يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ أي: الذين جمعوا بين الكفر والعصيان يتمنون أن تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ فيكونون ترابًا لما يرون من هول المطلع، فإذا شهدت عليهم الرسل بالكفر قالوا: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، فيُنطق ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بشركهم فيفتضحون وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً واحدًا، لأنهم كلما هموا بالكتمان شهدت عليهم جوارحهم بالكفر والعصيان.
وقيل: إن القيامة مواطن، في موطن لا يتكلمون ولا تسمع إلا همسًا، وفي موطن يتكلمون ويقولون: واللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مشركين، إلى غير ذلك من اختلاف أحوالهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لا بد أن يحصل الندم لمن فاته صحبة أهل الخصوصية، حتى مات محجوباً عن مشاهدة أسرار الربوبية، لا سيما إذا انضم إليهم كفرهم بخصوصيتهم والإنكار عليهم، وذلك حين يكشف له عن مقامهم البهي وحالهم السني، مصاحبين للمقربين في جوار الأنبياء والمرسلين، وهو في مقام أهل اليمين، ثم يعاتب على ما أسر عليه من الكبائر، وهي معاصي القلوب والضمائر، وهذا إذا مات على الإسلام، وإلا فالإنكار على الأولياء شُؤمُه سوء الخاتمة. والعياذ بالله من ذلك. وقد تقدم أن العارفين بالله يشهدون على العلماء، والعلماء يشهدون على العموم، ونبينا- عليه الصلاة والسلام يزكي من يحتاج إلى التزكية. والله تعالى أعلم.
ثم تكلم على عماد الدين وهى الصلاة، فقال:
[سورة النساء (4) : آية 43]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43)
قلت: جملة (وأنتم سكارى) : حال، وسكارى: جمع سكران، ويجمع على سُكارى بالفتح، وسكْرى بالسكون، و (لا جُنُبًا) عطف على جملة الحال، و (جُنب) يستوي فيه الواحد والاثنان والجماعة والمذكر والمؤنث، لأنه يجري مجرى المصدر، فلا يُثنى ولا يُجمع. و (إلا عابري) مستثنى من عام الأحوال، وأصل الغائط: الموضع المنخفض من الأرض، ثم أطلق على الواقع فيه مما يخرج من الإنسان.
يقول الحق جل جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى: لا تقوموا إليها وأنتم سكارى من خمر، أو غلبة نوم، أو شدة غفلة، حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ في صلاتكم، وتتدبروا ما تقرءون فيها، فالصلاة من غير حضور خاوية، وعند الخصوص باطلة، رُوِي أن عبد الرحمن بن عَوف صنَع مأدبة، ودَعَا إليها نفرًا من الصحابة، حين كانت الخمر مباحة، فأكلوا وشربوا حتى ثَمِلُوا، وجاء وقت صلاة المغرب، فتقدم أحدهم ليصلي بهم، فقرأ: أعبدُ ما تعبدون- من غير نفي- فنزلت الآية قبل تحريم الخمر، ثم حرمت بآية المائدة.
ولا تقربوها حالة جنابتكم في آي حال كان، إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ أي: في وقت سفركم، حيث لم تجدوا ماءً، بدليل ما يأتي، فيتيمم ويقرب الصلاة وهو جنب، وفيه دليل أن التيمم لا يرفع الحدث، قيل المراد بالصلاة مواضعها، وهي المساجد فلا يدخلها الجنب إلا مارًا، وبه قال الشافعي- رضى الله عنه- وقال أبو حنيفة: لا يجوز المرور، إلَاّ إذا كان فيه الماء والطريق. وقال مالك: لا يدخل إلا بالتيمم ولا يمر به أصلاً.
فلا تقربوا الصلاة وأنتم جنب حَتَّى تَغْتَسِلُوا.
وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى تخافون ضرر الماء، أو زيادته، أو تأخر برء، أو منع الوصول إلى الماء، أَوْ عَلى سَفَرٍ لم تجدوه فيه، أَوْ كنتم في الحضر مُحدِثِين حيث جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ، أو البول، أو بغيره من الأحداث، أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ أي: مست بشرتكم بشرتهن، بقصد اللذة أو عند وجدانها، وبه قال مالك.
وقال الشافعي: ينقض مطلقًا، قصد أم لا، وجد أم لا، ولو بميتة، وقال أبو حنيفة: إن كانت ملامسه فاحشة بحيث يحصل الانتشار نقضت، وإلا فلا.
وقال ابن عباس والحسن البصري ومحمد بن الحسن: لا تنقض الملامسة مطلقًا، ويقاس على اللمس سائر نواقض الأسباب، فتحصَّل أن «أو» تبقى على أصلها من التقسيم، فتكون الآية نصًا في تيمم الحاضر الصحيح، وبه قال مالك، ولا يعيد. وقال الشافعي: يُصلي بالتيمم ويُعيد، وقال أبو حنيفة: لا يُصلي حتى يجد الماء، ومن قال:«أو» بمعنى الواو فخروج عن الأصل بلا داع.
ثم قيّد التيمم في هذه الأحوال بفقد الماء، فقال: فَلَمْ تَجِدُوا ماء كافيًا، أو لم تقدروا على استعماله، فَتَيَمَّمُوا أي: اقصدوا صَعِيداً طَيِّباً أي: طاهرا، وهو ما صعد على وجه الأرض من جنسها كتراب، وهو الأفضل، وثلج وخضخاض «1» وحجر ومدر، لا شجر وحشيش ومعدن ذهب وفضة، وما التحق بالعقاقير، كشب، وملح، وكبريت، وغاسول «2» وشبهه، فلا يجوز. وقال أبو حنيفة: بكل شيء من الأرض وما اتصل بها كشجر
(1) الخضخاض درب من القطران أسود رقيق تطلى به الإبل الجربى.
(2)
الغاسول: عشب ينبت فى الصحراء.
وكحل، وزرنيخ، وشب ونورة، وجص، وجوهر، إلا منخالة الذهب والفضة والرصاص. وقال الشافعي: لا يجوز إلا بالتراب المنبت خاصة، وبه فسر الطيب، واشترط علوق التراب بيده، ولم يشترطه غيره.
ثم علّم الكيفية فقال: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ. قال مالك: اليد اسم للكف بدليل قطع السارق منه، فجعل المسح إلى المرفق سنة. وقال الشافعي: فرض، قياسًا على الوضوء، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً فلذلك يسَّر عليكم ورخص لكم في التيمم.
الإشارة: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا صلاة الحضرة القدسية، وأنتم سكارى بحب الدنيا الدنية، حتى يذهب عنكم سُكر حبها، وتعلموا ما تقولون في مناجاة خالقها، ولا جنبًا من جنابة الغفلة، إلا ما يمر بالخواطر على سبيل الندرة والقلة، حتى تغتسلوا بماء الغيب، الذي يحصل به طهارة الجنان، ويغيب المتطهر به عن رؤية الأكوان.
وإليه أشار ابن العربي الحاتمي: كما في طبقات الشعراني، ونسبها غيرُه للجنيد- رضى الله عنهم أجمعين- وهو الأصح، بقوله:
تَوَضَّأ بماءِ الغَيبِ إن كُنتَ ذا سِرٍّ
…
وإلَاّ تَيَمَّم بالصَّعِيدِ أو الصَّخر
وقّدَّم إمَامًا كُنتَ أنتَ إمَامَه
…
وصَلِّ صلاة الظُّهرِ فى أول العصر
فَهَذِي صَلاةُ العَارِفينَ بربّهِم
…
فإن كنت منهم فانضح البرِّ بالبَحر.
أي: إن لم تقدر على الطهارة الأصلية وهي الغيبة عن الأحداث الكونية، فاقصد العبادة الحسية، وقَّدم الشريعة أو من قام بها من أهل التربية النبوية أمامك، بعد أن كان يطلبك قبل أن تعرفه، وأجمع ظُهر الشريعة لعصر الحقيقة، فهذه صلاة العارفين، فإن كنت منهم فانضح بَرَّ ظاهرك بحقيقة باطنك، فما كمن في غيب السرائر ظهر في شهادة الظواهر. لهذا أشار تعالى بقوله:(وإن كنتم مرضى) بحب الهوى، (أو على سفر) في عجلة شغل الدنيا، أو جاء أحد منكم من غائط الحس، أو لامستم العلوم الرسمية، وانطبع صُورُ خيالها في قلوبكم، ولم تجدوا من يسقيكم ماء الغيب، وهي الخمرة الآزلية، فاقصدوا الأعمال الحسية، فلعلها توصلكم إلى الأعمال الباطنية، (إن الله كان عفوًا غفورًا)، وفي الحِكَم:«كيف يشرق قلبٌ صورُ الأكوان منطبعة في مرآته؟ أم كيف يرحل إلى الله وهو مُكَبَّل بشهواته، أم كيف يطمع أن يدخل حضرة الله وهو لم يتطهر من جنابة غفلاته؟ أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته؟» .