الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ، أي: من عدول المؤمنين يرونهما كالمرود في المكحلة، وإنما جعلوا أربعة مبالغة في الستر على المؤمن، أو ليكون على كل واحد اثنان، فَإِنْ شَهِدُوا عليهن بذلك فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ، واجعلوه سجنًا لهن حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أي: يستوفي أجلّهن الموتُ، أو يتوفاهن ملك الموت، أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا كتعيين الحد المخلّص من السجن، وكان هذا في أول الإسلام ثم نسخ بما في سورة النور من الحدود، ويحتمل أن يراد التوصية بإمساكهن بعد أن يُجلدن كي لا يَعُدْن إلى الزنى بسبب الخروج والتعرض للرجال.
واكتفى بذكر حدِّهن، بما في سورة النور، وهذا الإمساك كان خاصًا بالنساء بدليل قوله وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ أي: الزاني والزانية منكم، (فآذوهما) بالتوبيخ والتقريع- (فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما) أي:
اقطعوا عنهما الأذى، أو أعرِضوا عنهما بالإغماض عن ذكر مساوئهما.
قيل: إن هذه الآية سابقة على الأولى نزولاً، وكان عقوبة الزنى الأذى ثم الحبس ثم الجلد، وقيل، الحبس في المساحقات، والإيذاء في اللواطين، وما في سورة النور في الزناة. والذي يظهر. أن الحكم كان في أول الإسلام في الزنا: الإمساك للنساء في البيوت بعد الإيذاء بالتوبيخ، فتُمسك في بيتها حتى تموت، أو يجعل الله لها سبيلاً بالتزوج بمن يعفها عنه. والإيذاء للرجال بالتعيير والتقريع والتحجيم حتى تتحقق توبته، ثم نسخ ذلك كله بالحدود، وهو جَلْد البكر مائة وتغريبة عامًا ورجم المحصن. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي للعبد، إذا طَغَتْ عليه نفسُه، وأرادت ارتكاب الفواحش، أن يستشهد عليها الحفظة، الذين يحفظون عليه تلك المعاصي، فإن لم تستحِ، فليعاقبها بالحبس في سجن الجوع والخلوة والصمت، حتى تموت عن تلك الشهوات، أو يجعل الله لها طريقًا بالوصول إلى شيخ يُغيِّبه عنها، أو بوارد قوي مِن خوف مُزعج أو شوق مقلق، فإن تابت وأصلحت، أعرض عنها واشتغل بذكر الله، ثم يغيب عما سواه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر الحق تعالى وقت التوبة التي تقبل، فقال:
[سورة النساء (4) : الآيات 17 الى 18]
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18)
يقول الحق جل جلاله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ التي يُستحق عَلَى اللَّهِ قبولُها فضلاً وإحسانًا هي لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ أي: المعاصي متلبسين بِجَهالَةٍ أي: سفاهة وجهل وسوء أدب، فكل من اشتغل بالمعصية فهو جاهل بالله، قد انتزع منه الإيمان حتى يفرغ، وإن كان عالمًا بكونها معصية، ثُمَّ يَتُوبُونَ بعد تلك المعصية مِنْ قَرِيبٍ أي: من زمن قريب، وهو قبل حضور الموت لقوله بعدُ: حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ، وقوله- عليه الصلاة والسلام:«إن الله يقبلُ توبةَّ العبْدِ مَا لمْ يُغَرْغِرُ» وإنما جعله قريبًا لأن الدنيا سريعة الزوال، متاعها قليل وزمانها قريب، فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ تصديقاً لوعده المتقدم، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بإخلاصهم التوبة، حَكِيماً في ترك معاقبة التائب، إذ الحكمة هي وضع الشيء في محله.
وعن الحسن: قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لما أُهبط إبليسُ قال: وعزتك وعظمتك لا أفارق ابنَ آدم حتى تفارقَ روحُه جسدَه، قال الله تعالى: وعزتي وعظمتي لا أحجب التوبة عن عبدي حتى يغرغر بها» . وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الشيطانَ قال: وعزتِك لا أبرح أُغوى عبادكَ، ما دامتْ أرواحهم في أجسادهم. قال الله تعالى: وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروني» .
قال ابن جزي: وإذا تاب العبد توبة صحيحة بشروطها، فيقطع بقبول توبته عند جمهور العلماء. وقال أبو المعالي: يَغُلِب ذلك على الظن ولا يقطع. هـ.
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ مقبولة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ أي: بلغت الحلقوم قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ فلا توبة لهم، أُولئِكَ أَعْتَدْنا أي: أعددنا وهيأنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً، قال البيضاوي: سوَّى الحقُ تعالى بين من سوَّف التوبة إلى حضور الموت من الفسقة، وبين مَن مات على الكفر في نفي التوبة للمبالغة في عدم الاعتداد بها في تلك الحالة، وكأنه يقول: توبة هؤلاء وعدم توبة هؤلاء سواء. وقيل: المراد بالذين يعملون السوء: عصاة المؤمنين، وبالذين يعملون السيئات: المنافقون لتضاعف كفرهم، وبالذين يموتون: الكفار. هـ.
الإشارة: توبة العوام ليست كتوبة الخواص، إنَّ الله يمهل العوام ترغيبًا لهم في الرجوع، ويُعاقب الخواص على التأخير على قدر مقامهم في القرب من الحضرة، فكلما عظُم القربُ عظمت المحاسبة على ترك المراقبة، منهم من يسامح له في لحظة، ومنهم في ساعة، ومنهم في ساعتين، على قدر المقام، ثم يُعاتبهم ويردهم إلى الحضرة.
وقال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي في حاشيته: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ أي: إنما الهداية بعد الذلة، على الله لأنه الذي يُخلص من قَهْره بكرمه الفياض وبرحمته التي غلبت غضبه، كما قال تعالى: