الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العارفين أهل الإكسير، فسوء الأدب فيه أمره كبير، ومنع القاصدين من وصوله جُرمه كبير، وصد القلوب عن نفحات تلك الحضرة أكبر من كل كبير، ولا يزال قُطَّاع هذه الطريق يردون من أراد سلوكها على التحقيق، لكن من سبق له التأييد لا يرده عن الحق جبار ولا عنيد، ومن سبق له الحرمان، وحَكم عليه القضاءُ بالخذلان، رجع ولو بعد العيان، وأنشدوا:
والله ما نَشْكُرْ خَلِيعْ
…
وإنْ ثَمِلْ. وإن صَحَا
وإن ثَبَتْ، سَيْرٌ سَرِيعْ
…
وإن شَرِبْ حَتَّى امْتَحا
حَتى يُقَطَّعْ في القَطيعْ
…
ويَدُورْ دَوْرَ الرَحَا «1»
إن الذين آمنوا وصدَّقُوا بطريق الله، وهاجروا أهواءهم في مرضاة الله، وجاهدوا نفوسهم في محبة الله، أولئك يرجون رحمة الله، فلا يُخيبهم الكريم لأنه غفور رحيم.
ولمّا كان الخمر حلالاً في أول الإسلام، وكانوا يشربونه، ويتِّجُرون فيه، فيتصدقون بثمنه وبثمن القمار، بيَّن الحقّ تعالى ذلك، بعد الأمر بالإنفاق لئلا يقع التساهل في المعاملة بعلّة الصدقة، فقال:
[سورة البقرة (2) : آية 219]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)
قلت: الخمر في اللغة: ما يستر الشيء ويغطيه، ومنه: خمار المرأة، وسُمِّي الخمر خمراً لستره العقلَ. وفي الاصطلاح: ما غَيّب العقل دون الحواس مع النَّشْوة والطرَب. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ مُسْكرٍ خَمْرٍ وكُلُّ خَمْر، حَرَامٌ» .
والميسر: قال ابن عباس والحسن: كل قمار ميسر، من شطرنج ونرْد ونحوه، حتى لَعِب الصبيان بالجَوْز والكِعَاب، إذا كان بالفُلوس، وسمي ميسراً ليُسْر صاحبه بالمال الذي يأخذه، وأما إذا كان بغير عِوض، إنما هو لَعِبٍّ فقط، فلا بأس.
قاله ابن عرفة.
يقول الحق جل جلاله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ حكم الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ لهم: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ أي: عظيم لما فى الميسر من أكل أموال الناس بالباطل، وما ينشأ عنه من العداوة والشحناء، وما في الخمر من إذهاب العقل والسباب والافتراء والإذاية، والتعدّي الذي يكون من شاربه. وقرأ حمزة والكسائي: كثير بالمثلثة، أي: آثام كثيرة لقوله عليه الصلاة والسلام: «لَعَنَ اللهُ الخَمْرَ، وَبَائِعِهَا، وَمُبْتَاعَهَا، والمُشتَرَاة لَهُ، وعَاصَرَهَا، والمعصورة له،
(1) زجل للششترى.
وسَاقِيها، وشَاربهَا، وحَامِلهَا، والْمْحمُولة لَهُ، وآكل ثَمِنِها» . فهذه آثام، وفيها مَنافِعُ لِلنَّاسِ أي: منافع دنيوية ككسب المال بلا تعب، وإطعام الفقراء من كسبه، كما كانت تصنع العرب في الميسر، وفى الخمرة اللذة والنشوة، كما قال حسان رضي الله عنه:
ونَشْرَبُها فَتَتْرُكنا مُلوكاً
…
وأُسداً لا يُنهْنِهُنا اللقَاءُ «1»
وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما لأن منفعتهما دنيوية، وعقوبة إثمهما أُخروية، وهذه الآية نزلت قبل التحريم.
رُويَ أنه لمّا نزل بمكة قوله تعالى: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً، أخذ المسلمون يشربونها، ثم إن عمرَ ومعاذاً في نفر من الصحابة، قالوا: أفْتنا يا رسول الله في الخمر فإنها مُذهبة للعقل، فنزلت هذه الآية، فشربها قوم وتركها آخرون، ثم دعا عبدُ الرحمن بن عوف ناساً إلى داره، فشربوا وسكروا، ثم قام يصلي بهم فقرأ:(قل يا أيها الكافرون أعبدُ ما تعبدون) من غير نفي، فنزلت:
…
لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى
…
فاجتنبُوها في أوقات الصلاة. ثم دعا عتبانُ بنُ مالك سعدَ بن أبي وقاص في جماعة، فلما سكروا افتخروا وتناشدوا، فأنشد سعدُ شعراً فيه هجاء الأنصار، فضربه أنصارى بلخى بعير فشجَّه، فشكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً. فنزلت إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
…
إلى قوله
…
فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فقال عمر: قد انتهينا يا رب. هـ.
ولما شربها بعض الناس بعد التحريم، كان- عليه الصلاة والسلام يضرب فيها بالنعال والجريد، ضرباً غير محدود، وضرب أبو بكر وعمر أربعين، وأول من حد فيها ثمانين سيدنا عثمان «2» ، لما تهافت الناس فيها. والله تعالى أعلم.
الإشارة: اعلم أن الحق تعالى جعل للعقل نوراً يُميز بين الحق والباطل، بين الضار والنافع، وبين الصانع والمصنوع، ثم إن هذا النور قد يتغطى بالظلمة الطينية وهي نشوة الخمر الحسية. وقد يتغطى أيضاً بالأنوار الباهرة من الحضرة الأزلية إذا فاجأته، فيغيب عن الإحساس في مشاهدة الأنوار المعنوية، وهي أسرار الذات الأزلية، فلا يرى إلا أسرار المعاني القديمة، وينكر الحوادث الحسية، فسمي الصوفية هذه الغيبة خمرة لمشاركتها للخمر في غيبوبة العقل، وتغنوا بها في أشعارهم ومواجيدهم، قال ابن الفارض رضي الله عنه:
شَرِبْنَا على ذِكْر الحبيبِ مُدامَةً
…
سَكرنَا بها من قبل أن يُخلَقَ الكَرْمُ «3»
(1) قوله: (لا ينهنهنا)، النهنهة: الكف والمنع، والمراد: لا نخاف لقاء العدو.
(2)
الوارد أن سيدنا عمر رضي الله عنه هو أول من حد فى شرب الخمر ثمانين. أنظر فتح الباري 12/ 70- 75.
(3)
هذا الشعر مبنى على اصطلاح الصوفية. فإنهم يذكرون فى عباراتهم الخمرة بأسمائها وأوصافها. ويريدون بها ما أدار الله على ألبابهم من المعرفة، أو من الشوق والمحبة. وقوله:(سكرنا) كناية عن إغفال أمور الدنيا والحياة، مع معرفة الله عز وجل وهو كما يقول الآلوسى: سكر أرواح لا أشباح.
ثم قال:
علَى نَفْسِه فَليبْكِ مَن ضاعَ عُمْرُه
…
وليسَ لهُ مِنْها نَصِيبٌ ولا سَهْمُ
وقلت في عينيتي:
وَلِي لَوْعَةٌ بالرَّاحِ إِذْ فِيه رَاحِتِي
…
وَرَوْحِي ورَيْحَانِي، وخيرٌ واسِعُ
سَكرْنَا فهِمْنَا في بَهاءِ جَمَالِه
…
فَغِبْنا عَن الإحساسِ، والنُورُ ساطعُ
والميسر في طريق الإشارة: هو الغني الذي يحصل بهذه الخمرة، وهو الغني بالله عن كل ما سواه، (قل فيهما إثم كبير) أي: في تعاطيهما حرج كبير، ومنافع للناس بعد تعاطيهما، فيهما إثم كبير عند طالب الأجور، ومنافع للناس لمن طلب الحضور ورفع الستور. وأنشدوا:
لَوْ كَان لي مسعد بالراح يُسعِدُني
…
لمَا انتظرتُ لشُربِ الراحِ إفطارا
فالراحُ شيءٌ شَريفٌ أنتَ شَاربُه،
…
فاشْرَب، ولو حَمَّلَتْكَ الراحُ أوْزارا
يا مَنْ يلومُ على صَهْبَاءَ «1» صافيةٍ
…
خُذ الجِنَانَ، ودَعْنِي أَسكنُ النَارا
وقال ابن الفارض:
وقالُوا: شَرِبْتَ الإثَم! كلاّ، وإنما
…
شرِبْتُ التي في ترْكِها عنديَ الإثْمُ
وقال آخر «2» :
طابَ شُرْبُ المُدامِ في الخَلَواتْ
…
اسْقِني يا نديمُ بالآنِيَاتْ
خْمْرَةٌ تركُها علينا حرَامٌ،
…
ليسَ فيها إثمٌ ولا شُبُهَاتْ
عُتِّقَتْ في الدَّنان مِنْ قَبْلِ آدمْ
…
أصلُها طيّبٌ من الطَّيِّبَاتْ
أَفْتِ لي أيُّهَأ الفقيهُ وقلْ لي:
…
هل يجوزُ شُرْبُها على عَرَفاتْ؟
فيهما إثم كبير عند أهل الحجاب، ونفع كبير عند ذوي الألباب، يعني: في الخمرة الأزلية والغنى بالله. وقوله تعالى: (وإثمهما أكبر من نفعهما) : خطاب على قدر ما يفهم الناس لأن إثمهما ظاهر للعوام، وهو ما يظهر على
(1) الصهباء: الخمر.
(2)
وهو الششترى.