الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كذا؟ فيقول: يا رب، أعرف، فيوقفه على ذنبه ذنباً، ذنباً فيقول الله تعالى: أنا الذي سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم» . فلله الفضل والمنّة، وله الحمد والشكر.
الإشارة: (وإن تبدوا ما في أنفسكم) من الخواطر الردية والطوارق الشيطانية، أو تخفوه في قلوبكم، حتى يحول بينكم وبين شهود محبوبكم، (يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء) فيمحو ظلمته من قلبه بإلهام التوبة والمبادرة إلى اليقظة، (ويعذب من يشاء) بتركه مع ظلمة تلك الأغيار، وخوضه في بحار تلك الأكدار، فما منع القلوب من مشاهدة الأنوار إلا اشتغالها بظلمة الأغيار، فرّغْ قلبك من الأغيار تملأه بالمعارف والأسرار، فإن أردت أن تكون عين العين، فامح من قلبك نقطة الغين، وهي نقطة السوى، ولله درّ القائل:
إِنْ تَلاشَى الكونُ عَنْ عَيْنِ كشْفِي
…
شاهَدَ السرُّ غَيْبَه في بَيَاني
فاطْرح الكونَ عن عِيانِكَ وامْحُ
…
نقطةَ الغَيْنِ إنْ أردتَ تَرَاني
واعلم أن الخواطر أربعة: ملكي ورباني ونفساني وشيطاني، فالملكي والرباني لا يأمران إلا بالخير، والنفساني والشيطاني لا يأمران إلا بالشر، وقد يأمران بالخير إذا كان فيه دسيسة إلى الشر، والفرق بين النفساني والشيطاني:
أن الخاطر النفساني ثابت لا يزول بتعوذ ولا غيره، إلا بسابق العناية، بخلاف الشيطاني: فإنه يزول بذكر الله، ويرجع مع الغفلة عن الله. والله تعالى أعلم.
ولمّا نزل قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ
…
الآية. شق ذلك على الصحابة- رضى الله عنهم- فجاء الصدِّيقُ والفاروق وعبدُ الرحمن ومعاذ، وناسُ من الأنصار، فَجَثَوْا على الرُّكَب، وقالوا: يا رسول الله، ما نزلت علينا آيةٌ أشد من هذه الآية وأنا إن أخذنا بما نُحَدِّثُ به أنفَسنا هَلَكْنَا! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«هكذا نزلت» . فقالوا: كُلِّفنا من العمل ما لا نطيق، فقال- عليه الصلاة والسلام:«فلعلكم تقولون كما قالت بنو إسرائيل: سَمِعْنا وَعَصَيْنا، قولوا: سمعنا وأطعنا» ، فقالوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، وذَلَّتْ بها أَلْسِنَتُهُمْ، فأَنْزَلَ اللهُ التخفيف، وحكى ما وقع لهم من الإيمان والإذعان، فقال:
[سورة البقرة (2) : الآيات 285 الى 286]
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَها لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)
قلت: من قرأ: (لا نفرق) بالنون، فعلى حذف القول، أي: قالوا: لا نفرق، ومن قرأ بالياء فيرجع إلى الكل، أي: لا يفرق كل واحد منهم بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ، و (بين) : من الظروف النسبية، لا تقع إلا بين شيئين أو أشياء، تقول: جلست بين زيد وعمرو، وبين رجلين، أو رجال، ولا تقول بين زيد فقط، وإنما أضيف هنا إلى أحد لأنه في معنى الجماعة، أي: لا نفرق بين آحاد منهم كقوله عليه الصلاة والسلام: «ما أُحلَّت الغنائم لأحدٍ، سُودِ الرؤوس، غيركم» . و (غفرانك) : مفعول مطلق، أي: اغفر لنا غفرانك. أو: نطلب غفرانك، فيكون مفعولاً به.
يقول الحق جل جلاله: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ إيمان تحقيق وشهود، وَالْمُؤْمِنُونَ كل على قدر إيقان، كُلٌّ واحد منهم آمَنَ بِاللَّهِ على ما يليق به من شهود وعيان، أو دليل وبرهان، وآمن بملائكته وأنهم عباد مكرمون لَاّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ، وَكُتُبِهِ وأنها كلام الله، مشتملة على أمر ونهى ووعد ووعيد وقصص وأخبار، ما عرف منها كالتوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وجب الإيمان به بعينه، ومالم يعرف وجب الإيمان به في الجملة، وَرُسُلِهِ وأنهم بشر متصفون بالكمالات، منزّهون عن النقائص، كما يليق بحالهم، حال كون الرسول والمؤمنون قائلين لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ أو:(لا يفرق) كل منهم بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ بأن يصدقوا بالبعض، دون البعض كما فرقت اليهود والنصارى، وَقالُوا أي المؤمنين سَمِعْنا وَأَطَعْنا أي:
سمعنا قولك وأطعنا أمرك، نطلب غُفْرانَكَ يا ربنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ بالبعث والنشور، وهذا إقرار منهم بالبعث الذي هو من تمام أركان الإيمان.
فلمّا تحقق إيمانُهم، وتيقن إذعانُهم، خفَّف الله عنهم بقوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي: إلا ما في طاقتها وتسعه قدرتها. وهذا يدل على عدم وقوع التكليف بالمحال ولا يدل على امتناعه. أما المحال العادي «1» فجائز التكليف به، وأما المحال العقلي «2» فيمتنع، إذ لا يتصور وقوعه، وإذا كلف الله عباده بما يطيقونه، فكل نفس لَها ما كَسَبَتْ من الخير فتوفى أجره على التمام، وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ من الشر، فترى جزاءه، إلا أن يعفو ذو الجلال والإكرام.
وعبر في جانب الخير بالكسب، وفي جانب الشر بالاكتساب، تعليماً للأدب في نسبة الخير إلى الله، والشر إلى العبد. فتأمله.
ثم قالوا في تمام دعائهم: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا، أي: لا تؤاخذنا بما أدى بنا إلى نسيان أو خطأ من تفريط أو قلة مبالاة، وفي الحديث:«إن الله رفعَ عن أمتي الْخَطأَ والنِّسْيَانَ وما حدثتْ به نفسها» .
(1) المحال العادي: كرفع إنسان جبلا.
(2)
المحال العقلي: كالجمع بين الضدين.
ويجوز أن يراد نفس الخطأ والنسيان إذ لا تمتنع المؤاخذة بهما عقلاً، فإن الذنوب كالسموم، فكما أن تناول السم يؤدى إلى الهلاك، وإن كان خطأ- فتعاطي الذنوب لا يبعد أن يفضي إلى العقاب، وإن لم يكن عزيمة، لكنه تعالى وعد التجاوز عنه رحمة وفضلاً. ويجوز أن يدعو به الإنسان، استدامة واعتداداً بالنعمة فيه. ويؤيد ذلك مفهوم قوله- عليه الصلاة والسلام:«رفع عن أمتي الخطأ والنِّسْيَانْ» ، أي: فإن غير هذه الأمة كانوا يؤاخذون به، فدلّ على عدم امتناعه. قاله البيضاوي.
ثم قالوا: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً أي: عهداً ثقيلاً يأصر ظهورنا، أي: يثقله، فتعذبنا بتركه وعدم حمله، كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا مثل اليهود في تكليفهم بقتل الأنفس في التوبة، وقطع موضع النجاسة، وغير ذلك من التكاليف الشاقة، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ من التكاليف التي لا تسعها طاقتنا، وهذا يدل على جواز التكليف بما لا يطاق عادة، وإلا لما سئل التخلص منه، وَاعْفُ عَنَّا أي: امح ذنوبنا، وَاغْفِرْ لَنا أي: استر عيوبنا، وَارْحَمْنا أي: تعطف علينا. اعْفُ عَنَّا الصغائر، وَاغْفِرْ لَنا الكبائر، وَارْحَمْنا عند الشدائد والحسرات، أَنْتَ مَوْلانا أي: سيدنا وناصرنا، فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فإن من شأن المولى أن ينصر مواليه على الأعداء.
قال البيضاوي: (رُوِيَ أنه عليه الصلاة والسلام لمّا دعا بهذه الدعوات قيل له: فعلتُ) . وعنه عليه الصلاة والسلام: «أُنْزِلَ آيتان من كُنوز الجنة، كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفَيْ سنة، من قرأهما بعد العشاء الأخيرة أجْزَأتَاه عن قيام الليل» . وعنه عليه الصلاة والسلام: «من قرأ الأيَتينِ مِنْ آخِر سُورَةِ الْبَقَرةِ في لَيْلَة كَفَتَاهُ» . وهو يَرُدُّ قول من استكره أن يقال سورة البقرة، وقال: ينبغي أن يقال السورة التي يذكر فيها البقرة، كما قال- عليه الصلاة والسلام:«السورة التي يذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها فإنَّ تعلُّمها بَرَكَة، وَتَرْكَهَا حَسْرَة، ولن يَسْتَطِيعها البَطَلَةُ. قيل: وما البطلة؟ قال: السحرة» «1» .
الإشارة: يُفهم من سر الآية أن من شق عليه أمر من الأمور، أو عسرت عليه حاجة، أو نزلت به شدة أو بلية، فليرجع إلى الله، ولينطرح بين يدي مولاه، وليعتقد أن الأمور كلها بيده فإنَّ الله تعالى لا يخليه من معونته ورفده، فيخفف عنه ما نزل به، أو يقويه على حمله، فإن الصحابة- رضي الله عنهم لما شق عليهم المحاسبة على الخواطر سلَّموا وأذعنوا لأمر مولاهم، فأنزل عليهم التخفيف، وأسقط عنهم في ذلك التكليف، وكل من رجع في أموره كلها إلى الله قضيت حوائجه كلها بالله. «من علامات النجح في النهايات الرجوع إلى الله في البدايات» .
(1) قال الشهاب الخفاجي فى حاشيته على البيضاوي، موفقا بن القائلين بكراهة أن يقال: سورة البقرة، وقول الجمهور بجوازه: إنما المنع من ذلك كان فى صدر الإسلام، لما استهزأ سفهاء المشركين بسورة العنكبوت ونحوها، فمنع ذلك دفعا للملحدين. ثم لما استقر الدين، وقطع الله دابر القوم الظالمين، شاع ذلك وساغ.
وقوله تعالى: رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ، قيل: هو الحب لله، فلا يسأل العبد من مولاه من حبه إلا ما يطيقه، وتأمل قضية الرجل الذي سأل سيدنا موسى عليه السلام أن يرزقه الله حبه، فلما سأل ربه موسى عليه السلام هام ذلك الرجل، وشق ثيابه، وتمزقت أوصاله حتى مات. فناجى موسى رضى الله عنه ربه في شأنه، فقال:
يا موسى، ألف رجل كلهم سألوني ما سأل ذلك الرجل، فقسمت جزءاً من محبتي بينهم، فنابه ذلك الجزء. أو كما قال سبحانه.
وقال بعض الصالحين: حضرتُ مجلس ذي النون، في فسطاط مصر، فَحَزَرْت «1» في مجلسه سبعين ألفا، فتلكم ذلك اليوم في محبته تعالى فمات أحدَ عشرَ رجلاً في المجلس، فصاح رجل من المريدين فقال: يا أبا الفيض، ذكرْتَ محبة الله تعالى فاذكر محبة المخلوقين، فتأوّه ذو النون تأوّهاً شديداً، ومدّ يده إلى قميصه، وشقه اثنتين، وقال: آه! غلقت رهونهم، واستعبرت عيونهم، وحالفوا السُّهَاد، وفارقوا الرُّقاد، فليلُهم طويل، ونومهم قليل، أحزانهم لا تُنْفذ. وهموهم لا تفقد، أمورهم عسيرة، ودموعهم غزيرة، باكية عيونهم، قريحة جفونهم، عاداهم الزمان والأهل والجيران.
قلت: هذه حالة العباد والزهاد، أُولي الجد والاجتهاد، غلب عليهم الخوف المزعِج، أو الشوق المقلق، وأما العارفون الواصلون فقد زال عنهم هذا التعب، وأفضوا إلى الراحة بعد النصب، قد وصلوا إلى مشاهدة الحبيب، ومناجاة القريب، فعبادتهم قلبية، وأعمالهم باطنية، بين فكرة ونظرة، مع العكوف في الحضرة، قد سكن شوقهم وزال قلقهم، قد شربوا ورووا، وسكروا وصحوا، فلا تحركهم الأحوال، ولا تهيجهم الأقوال، بل هم كالجبال الرواسي، نفعنا الله بذكرهم، وجعلنا من حزبهم. آمين.
قوله تعالى: (واعف عنا)، قال الورتجبي: أي: (واعف عنا) قلة المعرفة بك، (واغفر لنا) التقصير في عبادتك، (وارحمنا) بمواصلتك ومشاهدتك. هـ. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
(1) حزر الشيء حزرا: قدره بالتخمين فهو حازر.