الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالأولى لمقام الإسلام، وإليه توجه الخطاب بقوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، والثانية لمقام الإيمان، وإليه توجه الخطاب بقوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ، والثالثة لمقام الإحسان، وإليه توجه الخطاب بقوله: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ.
يقول الحق جل جلاله: ذلِكَ الْكِتابُ الذي لا يقرب ساحتَه شكٍّ ولا ارتياب، هو عين الهداية لأهل التقى من ذوي الألباب، فلا يزالون يَتَرَقَّوْنَ به في المقامات والأحوال حتى يسمعوه من الكبير المتعال، بلا واسطة تبليغ ولا إرسال، قد انمحت في حقهم الرسوم والأشكال، وهذه غاية الهداية، وتحقيق سابق العناية.
قال جعفر الصادق: (والله لقد تجلّى الله تعالى لخلقه في كلامه ولكن لا يشعرون) وقال أيضاً- وقد سألوه عن حالة لحقَته في الصلاة حتى خَرّ مغشيًّا عليه، فلما سُرِّيَ عنه، قيل له في ذلك فقال-:(ما زلت أردد الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلم بها، فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته) .
فدرجات القراءة ثلاث:
أدناها: أن يقرأ العبد كأنه يقرأ على الله تعالى واقفاً بين يديه، وهو ناظر له ومستمع منه، فيكون حاله السؤال والتملُّق والتضرّع والابتهال.
والثانية: أن يشهد بقلبه كأن الله تعالى يُخاطبه بألفاظه، ويُناجيه بإنعامه وإحسانه، فمقامه الحياء والتعظيم، والإصغاء والفهم.
والثالثة: أن يرى في الكلام المتكلِّم، فلا ينظر إلى نفسه ولا إلى قراءته، بل يكون فانيّا عن نفسه، غائباً في شهود ربه، لم يبق له عن نفسه إخبار ولا مع غير الله قرار.
فالأولى لأهل الفناء في الأفعال، والثانية لأهل الفناء في الصفات، والثالثة لأهل الفناء في شهود الذات، رضى الله عنهم، وحشرنا على منهاجهم.. آمين.
ثم وصف المتقين، الذين خصوا بهداية كتابه المبين، بثلاثة أوصاف، فقال:
[سورة البقرة (2) : آية 3]
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
قلت: هذه الأوصاف تتضمن ثلاثة أعمال: الأول: عمل قلبي وهو الإيمان، والثاني: عمل بدني، وهو الصلاة، والثالث: عمل مالي، وهو الإنفاق في سبيل الله، وهذه الأعمال هي أساس التقوى التي تدور عليها.
أما العمل القلبي: فهو الإيمان أولاً، والمعرفة ثانياً، فما دام العبد محجوبا بشهود نفسه، محصوراً في الأكوان وفي هيكل ذاته فهو مؤمن بالغيب، يؤمن بوجود الحق تعالى، وبما أخبر به من أمور الغيب، يستدل بوجود أثره عليه، فإذا فني عن نفسه وتلطفت دائرة حسه، وخرجت فكرته عن دائرة الأكوان، أفضى إلى الشهود والعيان، فصار الغيب عنده شهادة، والملك ملكوتاً، والمستقبل حالاً، والآتي واقعاً، وقد قلتُ في ذلك:
فَلا تَرْضى بغَيْرِ الله حِبّاً
…
وكُنْ أبداً بعِشْقٍ واشْتِيَاقِ
تَرَى الأمْرَ المغيّب ذا عيان
…
وتحظى بالوصُولِ وبالتَّلَاقِي
وفي الحكم: «لو أشرق نور اليقين في قلبك لرأيت الآخرة أقرب من أن ترحل إليها، ولرأيت بهجة الدنيا وكسوة الفناء ظاهرة عليها» . وقال في التنوير: ولو انْهَتَكَ حجاب الوهم لوقع العيان على فقد الأعيان، ولأشرق نور الإيقان فغطّى وجود الأكوان. هـ.
وإنما اقتصر الحق تعالى على الإيمان بالغيب لأنه هو المكلف به إذ هو الذي يطيقه جلّ العباد، بخلاف المعرفة الخاصة فلا يطيقها إلا الخصوص، والله تعالى أعلم.
وأما العمل البدني: فهو إقامة الصلاة، والمراد بإقامتها إتقان شروطها وأركانها وخشوعها، وحفظ السر فيها، قال الشيخ أبو العباس المرسى رضى الله عنه:(كل موضع ذكر فيه المصلّون في معرض المدح فإنما جاء لمن أقام الصلاة، إما بلفظ الإقامة، وإما بمعنى يرجع إليها، قال تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ، وقال تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ، وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ، ولما ذكر المصلّين بالغفلة قال: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ولم يقل: فويل للمقيمين الصلاة) .
وأما العمل المالي فهو الإنفاق في سبيل الله واجباً أو مندوباً، وهو من أفضل القربات، يقول الله- تبارك وتعالى:«يا ابن آدم أَنفق، أنفقْ عليك» ، وفي حديث آخر:«أنفِقْ ولا تخَفْ من ذي العرش إقلالا» ، وقال صلى الله عليه وسلم:
«إنّ في الجنة غُرَفاً يُرى ظَاهِرُهَا مِنْ باطنها وباطِنَها مِنْ ظَاهِرهَا. قيل لِمَنْ هِي يا رسولَ الله؟ قال: لِمَنْ أطْعَمَ الطعَامَ، وأفْشَى السلام، وصَلى باللَّيْلِ والناسُ نِيام» . وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: «إن الله- عز وجل ليُدْخلُ باللقمةِ مِن الخبز والقبضةِ مِن التمْر ومثله ممَّا ينتفع به المسكين ثلاثةً، الجنةَ: رَب البيتِ الآمرَ به، والزوجة تصلحه، والخادمَ