الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: (الذين) : مبتدأ، وجملة (للذين أحسنوا) : خبر، أو صفة للمؤمنين قبله، أو نصب على المدح.
يقول الحق جل جلاله: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فأطاعوه فيما ندبهم إليه من اللحوق بالمشركين، إرهاباً لهم، مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ أي: الجرح، فتحاملوا على أنفسهم حتى ذهبوا مع نبيهم، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ بأن فعلوا ما أُمروا به، وَاتَّقَوْا الله في مخالفة أمر رسوله، أَجْرٌ عَظِيمٌ يوم يقدمون عليه.
الأشارة: الذين استجابوا لله فيما ندبهم من الوصول إلى حضرته، وللرسول فيما طلبهم به من اتباع سنته، فجعلوا قلوبهم محلاً لحضرته، وجوارحهم متبعة لشريعته، من بعد ما أصابهم في طلب الوصول إلى ذلك قرح وضرب وسجن وإهانة، فصبروا حتى ظفروا بالجمع بين الحقيقة والشريعة، للذين أحسنوا منهم بالثبات على السير إلى الوصول إلى الحق، واتقوا كل ما يردهم إلى شهود الفرق، أجر عظيم وخير جسيم، بالعكوف في الحضرة، والتنعم بالشهود والنظرة.
ثم قال الحق تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 173 الى 175]
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
قلت: الموصول بدل من الموصول قبله، و (يخوف) : يتعدى إلى مفعولين للتضعيف، حذف الأول، أي:
يخوفكم أولياءه من الكفار، أو حذف الثاني، أي: يخوف أولياءه القاعدين عن الخروج إلى ملاقاة العدو.
وهنا تفسيران: أحدهما: أن يكون من تتمة غزوة أحد، وهو الظاهر، ليتصل الكلام بما بعده، وذلك أن أبا سفيان لما هَمّ بالرجعة ليستأصل المسلمين، لقيه معبد الخزاعي، فقال له: إن محمداً خرج يطلبك في جمع لم أرَ مثله، فدخله الرعب، فلقيه ركب من عبد القيس يريد المدينة بالميرة، فقال لهم: ثبطوا محمداً عن لحوقنا، ولكم حمل بعير من الزبيب، فلما لقوا المسلمين خوفوهم، فقالوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، ومضوا حتى بلغوا حمراء الأسد ثم رجعوا، فعلى هذا:
يقول الحق جل جلاله: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ وهم ركب عبد قيس حيث قالوا للمسلمين: إِنَّ النَّاسَ يعني أبا سفيان ومن معه، قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ليرجعوا ليستأصلوكم فَاخْشَوْهُمْ وارجعوا إلى دياركم
فَزادَهُمْ ذلك إِيماناً ويقيناً وتثبيتاً في الدين، وهذا يدل على أن الإيمان يزيد وينقص، فيزيد بحسب التوجه إلى الله والتفرغ مما سواه، وينقص بحسب التوجه إلى الدنيا وشغبها، ويزيد أيضاً بالطاعة والنظر والاعتبار، وينقص بالمعصية والغفلة والاغترار.
ولما قال لهم الركب ذلك ليخوفهم، قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ أي: كافينا الله وحده، فلا نخاف غيره، وَنِعْمَ الْوَكِيلُ أي: نعم من يتوكل عليه العبد، وهي كلمة يدفع بها ما يخاف ويكره، وهي الكلمة التي قالها إبراهيم حين ألقي في النار، فَانْقَلَبُوا راجعين من حمراء الأسد، متلبسين بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وهي العافية والسلامة، وَفَضْلٍ وهي زيادة الإيمان وشدة الإيقان، لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ من جراحة وكيد عدو، وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ، الذي هو مناط الفوز بخير الدارين، وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ فقد تفضل عليهم بالتثبيت وزيادة الإيمان، والتوفيق إلى المبادرة إلى الجهاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو موجب الرضوان.
ثم حذَّرهم الحق تعالى ممن ثبّطهم عن اللحوق بالكفار، وهو ركب عبد القيس، تشبيهاً لهم بالشيطان، فقال:
إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يخوفكم أولياءه من المشركين، أو يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ القاعدين من المنافقين، فَلا تَخافُوهُمْ فإن أمرهم بيدي، وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن الإيمان يقتضي إيثار خوف الله على خوف الناس.
التفسير الثاني: أن يكون الكلام على غزوة بدر الصغرى: وذلك أن أبا سفيان لما انصرف من أُحد نادى:
يا محمد، موعدنا بدرٌ لقابل، إن شئت، فقال صلى الله عليه وسلم:«إن شاء الله تعالى» ، فلما كان العام القابل، خرج أبو سفيان فى أهل مكة، حتى نزل مرّ الظهران، فأنزل الله الرعب في قلبه، وبدا له أن يرجع، فلقي نُعيم بن مسعود الأشجعي معتمراً، فقال له: ائت المدينة وأعلمهم أنّا في جمع كثير، وثبطهم عن الخروج، ولك عندي عشر من الإبل، فأتى المدينة فأخبرهم، فكره أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم الخروج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«والذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَخْرجَنّ، ولو وَحْدِي» .
فرجع الجَبان وتأهب الشجعان، فخرجوا حتى أتوا بدراً الصغرى، ورجع أبو سفيان إلى مكة، فسموا جيش السويق، ووافق المسلمون السوق ببدر، وكانت معهم تجارات، فباعوا وربحوا، وانصرف النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة «1» .
فعلى هذا، يقول الحق جل جلاله: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، يعني: في غزوة بدر الصغرى، لميعاد أبي سفيان، مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ يعني: في غزوة أحد في العام الأول، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ بالخروج مع الرسول، وَاتَّقَوْا الله في مخالفته، أَجْرٌ عَظِيمٌ. الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ يعني نُعَيْم بن مسعود، وأطلق عليه الناس لأنه من جنسهم، كما يقال: فلان يركب الخيل، وما يركب إلا فرساً. أو: لأنه انضم إليه
(1) نزول الآية فى قصة حمراء الأسد هو ما عليه جمهور المفسرين، انظر: الطبري والمحرر الوجيز.