الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم حكى مقالتهم الدالة على نفاقهم، فقال:
وَإِنْ تُصِبْهُمْ
…
يقول الحق جل جلاله في وصف أهل النفاق: وإنهم إن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ كخصب ورخاء ونعمة ظاهرة، قالوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، ونسبوها إلى الله بلا واسطة، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ كقحط وجوع وموت وقتل، قالوا للرسول- عليه الصلاة والسلام: هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ بشؤم قدومك أنت وأصحابك، كما قالت اليهود- لعنهم الله-: منذ دخل محمدٌ المدينة نقصت ثمارها وغلت أسعارها.
قلت: بل زكت ثمارها، ورخصت أسعارها، وأشرقت أنوارها، ولاحت أسرارها، وقد دعا صلى الله عليه وسلم للمدنية بمثل ما دعا إبراهيمُ لمكة، وأضعاف ذلك، فما زالت الخيرات تترادف إليها حسًا ومعنى إلى يوم القيامة، وهذه المقالة قد صدرت ممن كان قبلهم فقد قالوا لسيدنا صالح عليه السلام: قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ، وقال تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ، مَّا يُقالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ. قال تعالى مكذبًا لهم: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الحسنة بفضله، والسيئة بعدله. ثم عيرهم بالجهل فقال: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً فهُم كالبهائم أو أضل سبيلاً، أو لا يفقهون القرآن ويتدبرون حديثه، ولو تدبروا لعلموا أن الكل من عند الله، وأنه خالق كل شيء، المقدَّر لكل شيء.
ثم علَّمنا الأدب بنسبة الكمالات إليه سبحانه بلا واسطة، ونسبة النقائص إلى شؤم ذنوبنا، فقال: مَّآ أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ أي: نعمة فَمِنَ اللَّهِ فضلاً وإحسانًا، وأما طاعة العبد فلا تفي بشكر نعمة واحدة، ولذلك قال- عليه الصلاة والسلام:«لَن يَدخلَ أحدُكُمُ الجنةَ بعملهِ» ، قيل: ولا أنتَ يا رسول الله؟ قال: «ولا أَنَا، إِلَاّ أنْ يتغمدنى الله برحمته» .
[سورة النساء (4) : الآيات 79 الى 80]
مَّآ أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80)
وَما أَصابَكَ أيها الإنسان مِنْ سَيِّئَةٍ أي: بلية فَمِنْ نَفْسِكَ أي: شؤم ذنبك، وعنه- عليه الصلاة والسلام أنه قال:«ما من خَدشٍ بعُود ولا اختلاج عرق ولا غيره إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثرُ» . فلا ينافي قوله: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فإن الكل منه إيجاداً واختراعًا، غير أن الحسنة إحسانٌ، والسيئة مُجَازاة وانتقام. كما قالت عائشة- رضى الله عنها-:«مَا مِن مُسلمٍ يُصيبه وَصَبٌ ولا نَصَبٌ، حتى الشوكة يُشَاكها، وحتى انقطاع شِسع نَعلهِ، إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر» .
وفي مصحف ابن مسعود: (قالوا مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فمن الله) الآية، فتكون حينئٍذ من مقالة المنافقين، والآيتان كما ترى لا حجة فيها للمعتزلة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ثلاث خصال لا ينجو منها إلا القليل كما في الحديث: الطيرة، والحسد، والظن. فقال- عليه الصلاة السلام:«إذا تَطَيَّرتَ فامضِ، وإذا حسدتَ فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تٌحَقّق» . فيتأكد على المريد أن يتطهر من هذه الخصال، ويصفي مشربه من التوحيد، فلا يرى في الوجود إلا مولاه، ولا ينسب التأثير إلى شيء سواه، إذا رأى نعمة به أو بغيره، قال: من الله، وإذا رأى مصيبة كذلك تأدب مع الله، فيعتقد في قلبه أنها من قَدَرِ الله، يقول:
قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وينسب النقص إلى نفسه وهواه، فالنفس والشيطان مناديل الحضرة، تمسح فيهما أوساخ الأقدار، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ. والله تعالى أعلم.
ثم شَهِدَ جل جلاله لرسوله بالرسالة، تحريضًا على تعظيمه وحثًا على طاعته، وترهيبًا من سوء الأدب معه، كما صدر من المنافقين، فقال:
وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ
…
قلت: إن تعلق الجار بالفعل كان (رسولاً) حال مؤكدة، وإن تعلق بالاسم كان حالاً مؤسسة تفيد العموم أي أرسلناك رسولاً للناس جميعًا، و (حفيظًا) حال من الكاف.
يقول الحق جل جلاله: وَأَرْسَلْناكَ يا محمد لِلنَّاسِ رَسُولًا تعلمهم التوحيد وتدلهم على الأدب، فالتوحيد محله البواطن، فلا يرى الفعل إلا من الله، والأدب محله الظواهر فينسب بلسانه النقص إلى نفسه وهواه. وإذا شهد الحق- جل جلاله لرسوله بالرسالة أغْنَى عن غيره، وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً. وشهادة الحق له بالمعجزات الواضحات، والبراهين القطعيات، والدلائل السمعيات، فإذا ثبتت رسالته وجب على الناس طاعته، ولذلك قال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ لأنه مُبلغ عن الله لا ينطق عن الهوى. رُوِي أنه صلى الله عليه وسلم قال:
«مَن أطَاعَنِي فَقَد أطَاعَ الله، ومَن أحبَني فقَد أحبَ الله» فقال بعض المنافقين: ما يريد هذا الرجل إلا أن نتخذه ربًّا، كما اتخذت النصارى عيسى. فنزل: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى وأعرض فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً تَحفَظُ عليهم أعمالهم، وتحاسبهم عليها، إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب.