الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإشارة: لمّا تجلى الحق جل جلاله من عالم الجبروت إلى عالم الملكوت، وحَمِدَ نفسه بنفسه، تجلّى أيضاً وتنزَّل من عالم الملكوت إلى عالم المُلك بقدرته وحكمته لإظهار آثار أسمائه وصفاته، فأظهر العبودية وأخفى الربوبية، أظهر الحكمة وأبطن القدرة، فجعلَ عالَم الحكمة يخاطبُ عالمَ القدرة، ويخضع له، ويتعبّد ويستمد، منه الإعانة والهداية، ويتحرز من طريق الضلالة والغواية.
فعالَمً الحكمة محلُّ التكليف، وعالم القدرة محل التصريف، عالم الحكمة عالم الأشباح، وعالم القدرة عالم الأرواح، فإياك نعبد لأهل عالم الحكمة، وإياك نستعين لأهل عالم القدرة. ولذلك قال الشيخ أبو العباس المرسي رضى الله عنه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ شريعة، وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ حقيقة، إِيَّاكَ نَعْبُدُ إسلاما، وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ إحساناً، إِيَّاكَ نَعْبُدُ عبادة، وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ عبودية، إِيَّاكَ نَعْبُدُ فرق إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ جَمْعٌ. هـ.
وإن شئت قلت: إِيَّاكَ نَعْبُدُ لأهل العمل لله وهم المخلصون، وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لأهل العمل بالله وهم الموحِّدون، العمل لله يوجب المثوبة، والعمل بالله يوجب القُرْبَة، العمل لله يوجب تحقيق العبادة، والعمل بالله يوجب تصحيح الإرادة، العمل لله نعتُ كُلِّ عابد، والعمل بالله نعت كل قاصد، العمل لله قيامٌ بأحكام الظواهر، والعمل بالله قيام بإصلاح الضمائر. قاله القشيري.
ثم إنَّ الناسَ في شهود القدرة والحكمة على ثلاثة أقسام: قسم حُجبوا بالحكمة عن شهود القدرة، وهم أهل الحجاب من أهل الغفلة، وقفوا مع قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وقسم حُجبوا بشهود القدرة عن الحكمة، وهم أهل الفناء، وقفوا مع قوله: إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، وقسم لم يحجبوا بالحكمة عن القدرة ولا بالقدرة عن الحكمة، أَعْطَوا كُلَّ ذي حق حقَّه وَوَفَّوْا كل ذي قسط قسطه، وهم أهل الكمال من أهل البقاء، جمعوا بين قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، وبالله التوفيق.
ثم بيّن المقصود الأعظم وما هو المطلوب الأهم، وهو طلب الهداية والتوفيق إلى عين التحقيق، فقال:
[سورة الفاتحة (1) : آية 6]
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
قلت: الهدايةُ في الأصل: الدلالة بلطف، ولذلك تُستعمل في الخير، وقوله: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ على التهكم، والفعل منه (هَدَى) بالفتح، وأصله أن يُعدى باللام، أو «إلى» ، فَعْومل هنا معاملة:
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ. والصراط لغة: الطريق، مشتق من سَرَط الطعامَ إذا ابتلعه، فكأنها تبتلع السابلةَ أي
المارَّة به، وَقُلِبَتْ السين صاداً لتطابق الطاء في الإطباق، وقد تُشَمُّ زاياً لقرب المَخرج، و (المستقيم) : الذي لا عوج فيه، والمراد به طريق الحق المُوصَّلة إلى الله.
يقول الحق جل جلاله: معلما لعباده كيف يطلبونه، وما ينبغي لهم أن يطلبوا، أي: قُولوا (اهدنا) أي: أَرشِدْنا إلى الطريق المستقيم، الموصلة إلى حضرة النعيم، والطريقُ المستقيم هو السيرُ على الشريعة المحمدية في الظاهر، والتبرِّي من الحول والقوة في الباطن، أو تقول: هو أن يكون ظاهرُك شريعةً وباطنك حقيقة، ظاهرك عبودية وباطنك حرية، الفرق على ظاهرك موجود والجمع في باطنك مشهود، وفي الحكم:«متى جَعَلَك في الظاهر ممتثلاً لأمره وفي الباطن مستسلماً لقهره، فقد أعظم المِنَّة عليك» .
فالصراط المستقيم الذي أمرَنَا الحقُّ بطلبه هو: الجمع بين الشريعة والحقيقة، والمفهوم من قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، ولذلك وصلَه به، فكأن الحق- سبحانه- يقول: يا عبادي احمدوني ومجدوني وأفردوني بالقصد وخُصُّوني بالعبادة، وكونوا في ظاهركم مشتغلين بعبادتي، وفي باطنكم مستعينين بحولي وقوتي، أو كونوا في ظاهركم متأدبين بخدمتي، وفي باطنكم مشاهدين لقدرتي وعظمة ربوبيتي.
وقال سيدنا علي- كَرَّمَ الله وجهه-: (الصراط المستقيم هنا القرآن) . وقال جابر رضي الله عنه: (هو الإسلام) يعني الحنيفية السمحاء، وقال سهل بن عبد الله: (هو طريق محمد صلى الله عليه وسلم . يعني اتباعَ ما جاء به. وحاصله ما تقدم من إصلاح الظاهر بالشريعة والباطن بالحقيقة، فهذا هو الطريق المستقيم الذي من سلكه كان من الواصلين المقربين مع النبيين والصدِّيقين.
فإن قلتَ: إذا كان العبدُ ذاهباً على هذا المنهاج المستقيم، فكيف يطلب ما هو حاصل؟ فالجواب: أنه طلب التثبيت على ما هو حاصل، والإرشاد إلى ما هو ليس بحاصل، فأهل مقام الإسلام يطلبون الثبات على الإسلام، الذي هو حاصل، والترقي إلى مقام الإيمان الذي ليس بحاصل، على طريق الصوفية، الذين يخصون العمل الظاهر بمقام الإسلام، والعمل الباطن بمقام الإيمان، وأهلُ الإيمان يطلبون الثبات على الإيمان الذي هو حاصل، والترقي إلى مقام الإحسان الذي ليس بحاصل، وأهل مقام الإحسان يطلبون الثبات على الإحسان، والترقي إلى مالا نهاية له من كشوفات العرفان وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ.
وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ بالتثبيت فيما هو حاصل، والإرشاد فيما ليس بحاصل، ثم قال: عمومُ المؤمنين يقولون: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي: بالتثبيت فيما هو
حاصل، والإرشاد لما ليس بحاصل، فإنه حصل لهم التوحيد وفاتَهُم درجات الصالحين، والصالحون يقولون:
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ معناه: نسألك التثبيت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل، فإنهم حصل لهم الصلاح وفاتهم درجات الشهداء، والشهداءُ يقولون: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي بالتثبيت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل، فإنهم حصلت لهم الشهادة وفاتهم درجات الصديقين، والصديقون يقولون: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي: بالتثبيت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل، فإنهم حَصل لهم درجات الصديقين وفاتهم درجات القطب. والقطبُ يقول: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ بالتثبت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل، فإنه حصل له رتبة القطبانية، وفاته علم ما إذا شاء الله أن يطلعه عليه أطلعه. هـ.
وقال بعضهم: الهدايةُ إما للعين وإما للأثرِ الدالَّ على العين، ولا نهاية للأولى. قلت: فالأولى لأهل الشهود والعِيان، والثانية لأهل الدليل والبرهان، فالهداية للعين هي الدلالةُ على الله. والهداية للأثر هي الدلالة على العمل، «مَنْ دَلَّكَ على الله فقد نصحك، ومَن دلَّك على العمل فقد أتعبك» . وإنما كانت الأولى لا نهاية لها لأن الترقي بعد المعرفة لا نهاية له. بخلاف الدلالة على الأثر فنهايتها الوصول إلى العين، إن كان الدالُّ عارفاً بالطريق.
قال البيضاوي: وهداية الله تتنوَّعُ أنواعاً لا يحصيها عد وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها لكنها تنحصر في أجناس مترتبة:
الأول: إِفاضَةُ الُقُوَى التي بها يتمكنُ المرء من الاهتداء إلى مصالحه، كالقوة العقلية والحواس الباطنة والمشاعر الظاهرة.
الثاني: نَصْبُ الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد، وإليه الإشارة بقوله: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ، وقال: فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى.
الثالث الهدايةُ بإرسال الرسل وإنزال الكُتُب، وإياها عني بقوله: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا، وقوله:
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ.
الرابع: أن يكشف عن قلوبهم السرائر ويُرِيَهُمْ الأشياءَ كما هي بالوحي والإلهام والمنامات الصادقة. وهذا يختص بِنَيْله الأنبياءُ والأولياءُ، وإياه عني بقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ، وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا.