الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التخيير والرد على الجاهلية، فإنَّ منهم مَن أَثم المتعجل، ومنهم من أثم المتأخر. هذا كله لِمَنِ اتَّقى الله في حجه، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، فإنه يخرج من ذُنُوبِه كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أمه، كما قال الصادق المصدوق، وَاتَّقُوا اللَّهَ في جميع أموركم، فإنه ذكرٌ وشرفٌ لكم، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فتجازَوْن على ما أسلفتم من خير أو شر.
الإشارة: الأيام المعدودات هي أيام الدنيا فإنها قلائل معدودة، وهي كلها كيوم واحد، وأيام البرزخ يومٌ ثانٍ، وأيام البعث وما بعده يوم ثالث، فمن تعجل في يومين، بحيث طوى في نظره أيام الدنيا وأيام البرزخ، وسكن بقلبه في يوم القيامة فلا إثم عليه، وهذا هو صاحب الهمة المتوسطة، ومن تأخر حتى زَهد فى الأيام الثلاثة، وعلق همته بمولاه، ولم يلتفت إلى ما سواه، فلا إثم عليه في ذلك التأخر، إن اتقى شهود السوى، وعلق همته بمحبة المولى، ثم حضّ سبحانه على هذه التقوى فقال:(واتقوا الله) فلا تشهدوا معه سواه، (واعلموا أنكم إليه تحشرون) فترَوْا ما فاز به المتقون.
ولمّا أمر الحق سبحانه عباده بالتقوى ذكر من لم يرفع بذلك رأسا واتبع هواه، ومن امتثل أمره وباع نفسه لله فقال:
[سورة البقرة (2) : الآيات 204 الى 207]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207)
قلت: نزلت الآية في الأخنَسْ بن شريق الثقفي وصُهيب بن سنان الرومي، أما الأخنس فكان رجلاً حسن المنظر، حُلُو المنطق، كان يوالي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدَّعي الإسلام، ثم ارتد، ومرَّ على زرع وحُمر للمسلمين فقتلها وأفسد الزرع، قال ابن عطية: ولم يثبت أنه أسلم. قلت: بل ذكره في القاموس من الصحابة، فانظره، ولعله تاب بعد نزول الآية. وأما صهيب الرومي فأخذه المشركون وعذبوه ليرتد، فقال لهم: إني شيخ كبير لا أنفعكم إن كنت معكم، ولا أضركم إن كنت عليكم، فخلّوني وما أنا عليه، وخذوا مالي، فقبلوه منه، وأتى المدينة فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال له:«رَبِحْتَ يا أَبَا يَحْيى» .
وقيل: نزلت في المنافقين ومَنْ نحَا نحوهم، وفيمن باع نفسه لله في الجهاد وتغيير المنكر من المسلمين. و (في الحياة الدنيا) يتعلق بالقول، و (ألد الخصام) شديده، وفي الحديث:«أبْغَضُ الرِّجالِ إلى اللهِ الألدُّ الخَصِم» .
والخِصام: مصدر، أو جمع خصيم.
يقول الحق جل جلاله: وَمِنَ النَّاسِ قوم حلو اللسان خرَاب الجَنَان، إذا تكلم في شأن الدنيا يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فيها لرونقه وفصاحته، وَيُشْهِدُ اللَّهَ أي: يحلف على أنه موافق لقلبه، وأن ظاهره موافق لباطنه، وهو شديد الخصومة والعداوة للمسلمين، أو أشد الخصوم، وَإِذا تَوَلَّى أي: أدبر وانصرف عنك، سَعى فِي الْأَرْضِ أي: مشى فيها بنية الإفساد لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ كما فعل الأخنَسْ، أو كما فعله أهل الظلم، فيَحْبِسُ الله القَطْر، فَيَهْلِكَ الحرثُ والنسل بشؤم معاصيهم، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ أي: لا يرتضيه، فاحذروا غضبه. وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ وارجع عما أنت عليه من الفساد أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ أي: حملته الحمية والأنفة بسبب الإثم الذي ارتكبه، فلا ينزجر عن غَيِّه. أو حملَتْه الحمية على الإثم الذي يُؤمَر باتقائه. فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ أي: كَفَته عذاباً وعقاباً، وهي عَلَمٌ لدار العقاب، كالنار، وَلَبِئْسَ الْمِهادُ هي، أي: بئس الفراش الذي مهَّده لنفسه.
ونزل في مقابله، وهو صهيب، أو كل من بذل نفسه لله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ أي: يبيعُها ويبذلها لله في الجهاد وغيره، ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ والوصول إلى حضرته وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ الذين يفعلون مثل هذا، فيدرأ عنهم المضَارّ، ويجلبُ لهم المَسَار أينما حَلُّوا من الدارين.
الإشارة: الناس على قسمين: قسم زَيّنُوا ظواهرهم وخرَّبوا بواطنهم، ظاهرهم جميل وباطنُهم قبيح، إذا تكلموا في الدنيا أو في الحس، أعجبَك قولهم، وراقك منظرُهم، وإذا تكلموا في الآخرة، أو في المعنى، أخذتهم الحبْسةُ والدهشة. وفي بعض الكتب المنزلة:«إنَّ مِنْ عِبَاد الله قوماً ألْسنَتُهُم أحْلَى منَ العَسَلِ، وَقُلُوبُهُمْ أمرّ مِنْ الصَّبْرِ، يَلْبَسُونَ للنَّاس جُلُودَ الضَّأنِ مِن اللِّينِ، يَجْتَرُّون الدُّنْيَا بالدين، يَقُولُ الله تعالى: أبِي يَغْتَرُّونَ، وعليَّ يَجْترِئُون؟ حَلَفتْ لأُسلطنَّ عليهمْ فتْنةٌ تَدَعُ الْحَليم مِنْهُمْ حَيْرَانَ» .
وقوله (يلبسون
…
) الخ. كناية عن إظهار اللين والسهول ليخدع ويغر الناس ليتوصل إلى حظ نفسه من الدنيا، ومع ذلك يدعي موافقة ظاهره لباطنه، وهو شديد الخصومة لأهل الله، وإذا تولى عنك اشتغل بالمعاصي والذنوب، ليُفسد في الأرض، ويهلك الحرث والنسل بشؤم معاصيه، وإذا ذُكِّر: أنِفَ واستكبر، وأخذته حمية الجاهلية، فحسبُه البُعد في نار القطيعة.