الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم سلَاّهم وبشرهم فقال: وَلا تَهِنُوا أي: لا تضعفوا عن قتال عدوكم بما أصابكم، وَلا تَحْزَنُوا على من قُتل منكم، وهم سبعون من الأنصار وخمسة من المهاجرين، منهم: حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير- صاحب راية النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن جحش، وعثمان بن شماس، وسعد مولى عتبة- رضى الله عنهم-.
أو: (لا تحزنوا) لفوات الغنيمة وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ بأن تكون لكم العاقبة والنصر، أو: وحالكم أنكم أعلى منهم شأناً، فإنكم على الحق وقتالكم لله، وقتلاكم في الجنة، وهم على الباطل، وقتالهم للشيطان، وقتلاهم في النار، فلا تفشلوا عن الجهاد إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن الإيمان يقتضي قوة القلب بالوثوق بالله والاعتماد عليه، أو:(إن كنتم مؤمنين) بما وعدتكم من العلو والنصر. والله أعلم.
الإشارة: قد خلت من قبلكم، أيها المريدون، سنن الله في أوليائه مع المنكرين عليهم من عوام عباده، فإنه أبعدهم عن ساحة حضرته، وحرمهم من سابق عنايته، حتى ماتوا على البُعد، فاندرست آثارهم وخربت ديارهم، فسيروا في الأرض وانظروا كيف كان عاقبةُ المكذِّبين لأوليائه، هذا بيان للمعتبرين، وزيادة هدى وموعظة للمتقين، فلا تهنوا أيها الفقراء وتضعفوا عن طلب الحق بالرجوع عن طريق الجد والاجتهاد، لما يصيبكم من أذى أهل العناد، وأنتم الأعلون بالنصر والتأييد، ورفع درجاتكم مع خواص أهل التوحيد، إن كنتم مؤمنين بوعد الملك المجيد، فمن طلب الله وجده، وأنجز بالوفاء موعده، لكن بعد تجرع كؤوس مرارة الصبر، ودوام الحمد والشكر، وأنشدوا:
لا تَحْسَب المجْد تَمْراً أَنْتَ آكِلُهُ
…
لَنْ تَبْلُغَ المَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصّبر «1»
ثم سلاهم بمشاركة المكذبين فيما أصابهم، فقال:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 140 الى 143]
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
قلت: القرح- بالفتح والضم-: الجرح، وقيل: بالفتح: الجرح، وبالضم: ألمه ووجعه. والمداولة: المفاعلة من الدولة، وهي الغلبة، و (الأيام) : نعت أو خبر، و (نداولها) : خبر أو حال، و (ليعلم) : متعلق بمحذوف، أي: وفعل
(1) البيت للمتنبى.
ما فعل من الادالة ليعلم، أو عطف على عِلة محذوفة، أي: نداولها ليكون كيت وكيت، وليعلم
…
الخ، إيذاناً بأن العلة فيه غير واحدة، وأن ما يصيب المؤمن: فيه من المصالح ما لا يُعلم، و (يعلم الصابرين) : منصوب بأن، على أنَّ الواو للجمع.
يقول الحق جل جلاله: إِنْ يَمْسَسْكُمْ في غزوة أحد قَرْحٌ كقتل أو جرح، فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ من أعدائكم يوم بدر قَرْحٌ مِثْلُهُ، فإن كان قُتل منكم خمسة وسبعون يوم أحد، فقد قتل منهم يوم بدر سبعون وأسُرَ سبعون. أو: فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ يوم أحد قَرْحٌ مثل ما أصابكم، فإنكم نلتم منهم وهزمتموهم، قبل أن تخالفوا أمر الرسول- عليه الصلاة والسلام، كما نالوا منكم يومئذ. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ أي: نُصرف دولتها بينهم، فنديل لهؤلاء تارة ولهؤلاء أخرى، كما قال الشاعر:
فَيَوْمٌ عَلَيْنَا، ويَوْمٌ لنَا،
…
ويَوْمٌ نُسَاءُ، ويَوْمٌ نُسَرْ «1»
فقد أديل المسلمون على المشركين يوم بدر، فكانت الدولة لهم، وأديل المشركون يوم أحد. والمراد بالأيام: أيام الدنيا، أو أيام النصر والغلبة. وإنما أديل للمشركين يوم أحد ليتميز المؤمنون من المنافقين، ويظهر علمهم للناس، وليتخذ الله مِنْكُمْ شُهَداءَ حين ماتوا في الجهاد، أكرمهم الله بالشهادة، ولا تدل إدالة المشركين على أن الله يحبهم، فإن الله لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وإنما أدالهم لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي: ليطهرهم ويصفيهم من الذنوب، وأنما أدال المسلمين على المشركين ليمحق الكافرين ويقطع دابرهم. والمحق: نقص الشيء قليلاً قليلاً.
ثم عاتب المسلمين فقال: أَمْ حَسِبْتُمْ أي: ظننتم أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ علم ظهوره، وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ أي: لا تظنوا أن تدخلوا الجنة كما دخلها مَنْ قُتل منكم، ولم يقع منكم مثل ما وقع لهم من الجهاد والصبر على القتل والجرح حتى يقع العلم ظاهراً بجهادكم وصبركم.
وَلَقَدْ كُنْتُمْ قبل خروجكم إلى الجهاد تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ أي: الحرب لأنه سبب الموت، وتقولون: ليت لنا يوماً مثل يوم بدر، فلقد لقيتموه وعاينتموه يوم أحد وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ من مات من إخوانكم، فما لكم حين رأيتموه جبنتم وانهزمتم؟ وهو عتاب لمن طلب الخروج يوم أحد، ثم انهزم عن الحرب، ثم تداركهم بالتوبة والعفو، على ما يأتي إن شاء الله. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إن يمسسكم يا معشر الفقراء قرح كحبس أو ضرب أو سجن أو حَرج أو جلاء، فقد مس العموم مثل ذلك، غير أنكم تسيرون به إلى الله تعالى لمعرفتكم فيه، وهم لا سير لهم لعدم معرفتهم، أو إن يمسسكم قرح فقد مسَّ القوم المتقدمين من أهل الخصوصية مثل ما أصابكم، ففيهم أسوة لكم، وهذه عادة الله في أوليائه، يديل عليهم حتى يتطهروا ويتخلصوا، ثم يُديل لهم، وإنما أديل عليهم أولاً ليتطهروا من البقايا وتكمل فيهم المزايا، وليعلم
(1) البيت للنمر بن كولب، كما ورد فى الكتاب لسيبويه 1/ 86.