الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأشارة: لا ينبغي للمريد الصادق أن يخالط أهل الغفلة، ولا يتودد معهم فإن ذلك يقطعه عن ربه، ويصده عن دواء قلبه، وفي ذلك يقول صاحب العينية:
وَقَاطِعْ لِمَنْ واصلت أيام غفلة
…
فما وَاصَلَ العُذْالَ إلَاّ مُقَاطِعُ
وجانب جناب الأجنبي لو أنه
…
لقرب انتساب في المنام مضاجع
فللنفس من جلاسها كل نسبة
…
ومن خلة للقلب تلك الطبائع
إلا أن يتقي منهم تقية، بحيث تلجئه الضرورة إلى مخالطتهم، فيخالطهم بجسمه ويفارقهم بقلبه، وقد حذَّر الصوفية من صحبة أرْبَع طوائف: الجبابرة المتكبرون، والقراء المداهنون، والمتفقرة الجاهلون، والعلماء المتجمدون لأنهم مُولَعون بالطعن على أولياء الله، يرون ذلك قربة تُقربهم إلى الله.
ثم قال: (ويحذركم الله نفسه) أن تقصدوا معه غيره، وهذا خطاب للسائرين بدليل تعقيبة بقوله:(وإلى الله المصير) أي: إليه ينتهي السير وإليه يكون الوصول، ثم شدد عليهم في المراقبة فقال:(إن تُخفوا ما في صدوركم) من الميل أو الركون إلى الغير أو الوقوف عن السير، (أو تبدوه يعلمه الله) فينقص عنكم المدد بقدر ذلك الميل، يظهر ذلك يوم الدخول إلى بلاد المشاهدة، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ) ما قدّمت من المجاهدة، فبقدر المجاهدة تكون المشاهدة. ثم خاطب الواصلين فقال:(ويحذركم الله نفسه) من أن تشهدوا معه سواه، فلو كُلّف الواصل أن يشهد غيره لم يستطع، إذ لا غير معه حتى يشهده. ويدل على أن الخطاب هنا للواصلين تعقيبه بالمودة والرأفة، اللائقة بالواصلين المحبوبين العارفين الكاملين. خرطنا الله في سلكهم بمنِّه وكرمه.
ثم لا طريق للوصول إلى هذا كله إلا باتباع الرسول الأعظم، كما أشار إلى ذلك بقوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 31 الى 32]
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32)
قلت: قد تقدّم الكلام على حقيقة المحبة عند قوله يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ. وقال البيضاوي هنا: المحبة ميلُ النفس إلى الشيء لإدراك كمال فيه، بحيث يحملها- أي الميل- إلى ما يقربها إليه، والعبد إذا علم أن الكمال الحقيقي ليس إلا لله، وأن ما يراه كمالاً من نفسه أو غيره فهو من الله وبالله وإلى الله، لم يكن حبه إلا لله وفي الله، وذلك يقتضي إرادة طاعته، فلذلك فُسرت المحبة بإرادة الطاعة، وجعلت مستلزمة لاتباع الرسول في عبادته، والحرص على مطاوعته. هـ.
وقوله: (فإن تولوا) : فعل ماض مجزوم المحل، ولم يدغمه البَزِّي هنا، على عادته في الماضي، لعدم موجبه.
يقول الحق جل جلاله: قُلْ يا محمد لمن يدّعي أنه يحب الله ولا يتبع رسوله: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ كما زعمتم، فَاتَّبِعُونِي في أقوالي وأفعالي وأحوالي، يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ أي: يرضى عنكم ويقربكم إليه، وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أي: يكشف الحجاب عن قلوبكم بغفران الذنوب ومحو العيوب، فيقربكم من جناب عزه، ويبوئكم في جِوار قدسه، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن تحبب إليه بطاعته واتباع رسوله.
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ فيما يأمركم به وينهاكم عنه، وَالرَّسُولَ فيما يَسُنه لكم ويرغبكم فيه، فَإِنْ تَوَلَّوْا وأعرَضوا عنه، فقد تعرضوا لمقت الله وغضبه بكفرهم به فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ أي: لا يرضى عنهم ولا يقبل عليهم، وإنما لم يقل: لا يحبهم لقصد العموم، والدلالة على أن التولي عن الرسول كفر، وأنه برئ من محبة الله، وأن محبته مخصوصة بالمؤمنين.
رُوِيَ أن نصارى نجران قالوا: إنما نعظم المسيح ونعبده، حباً لله وتعظيماً لله. فقال تعالى:(قل) يا محمد: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ تعالى فَاتَّبِعُونِي
…
الآية. ولما نزلت الآية قال عبد الله بن أُبَيّ لأصحابه: إن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله، ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى، فنزل قوله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ الآية. وقال- عليه الصلاة والسلام: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أَطَاعَ الإمامَ فَقدْ أطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى الله وَمَنْ عصَى الإمامَ فَقَدْ عَصَانِي» .
الإشارة: اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم رُكن من أركان الطريقة، وشرط في إشراق أنوار الحقيقة، فمن لا اتباع له لا طريق له، ومن لا طريق له لا وصول له، قال الشيخ زروق رضي الله عنه:(أصول الطريقة خمسة أشياء: تقوى الله في السر والعلانية، واتباع النبي صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأفعال، والإعراض عن الخلق في الإقبال والإدبار، والرجوع إلى الله في السراء والضراء، والرضى عن الله في القليل والكثير) .
فالرسول- عليه الصلاة والسلام حجاب الحضرة وبَوَّابُها، فمن أتى من بابه بمحبته واتباعه، دخل الحضرة، وسكن فيها، ومن تنكب عنها طُرِد وأُبعد، وفي ذلك يقول القائل:
وأنتَ بابُ الله، أيّ امرئ
…
وافاه من غَيْرِكَ لَا يدْخُلُ
وقال في المباحث:
تَبِعَهُ العَالِم في الأقوال
…
والعابد الزاهد في الأفعال
وفيهما الصوفي في السباق
…
لكنه قد زاد في الأخْلَاقِ