الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الداخل على الله منكور، والراجع إلى الناس مبرور، وهذا هو الغالب، والنادر لا حكم له، فلو كان الاتفاق محموداً لكان على الأنبياء أولى، فلما لم يقع للأنبياء والرسل، لم يقع للأولياء إذ هم على قدمهم، وقائمون بالوراثة الكاملة عنهم. والله تعالى أعلم.
ثم حضّ على الصدقة فى سبيل الله لأنها برهان الإيمان وعنوان الهداية، فقال:
[سورة البقرة (2) : آية 254]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
يقول الحق جل جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ واجباً أو تطوعاً في وجوه الخير، وخصوصاً في الجهاد الذي نحن بصدد الحضّ عليه، وقدموا لأنفسكم ما تجدونه بعد موتكم مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ الحساب، واقتضاء الثواب، يوم ليس فيه بَيْعٌ ولا شراء، فيكتسب ما يقع به الفداء، وليس فيه خُلَّةٌ تنفعُ إلا خلة الأتقياء، وَلا شَفاعَةٌ ترجى إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا فأنفقوا مما خولناكم في سبيل الله، وجاهدوا الكافرين أعداء الله، فإن الكافرين هُمُ الظَّالِمُونَ حيث وضعوا عبادتهم في غير محلها، ونسبوا الربوبية لغير مستحقيها، إذ لا يستحقها إلا الحي القيوم، الذي أشار إليه الحق جل جلاله:
[سورة البقرة (2) : آية 255]
اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَاّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
قلت: (الله) : مبتدأ، وجملة (لَا إله إِلَاّ هُوَ) : خبره، والضمير المنفصل بدل من المستتر في الخبر، و (الحي) : إما خبر ثان، أو لمبتدأ مضمر، أو بدل من (الله) ، و (قيوم) فَيْعُول، مبالغة من القيام، ومعناه: القائم بنفسه المستغني عن غيره.
يقول الحق جل جلاله: اللَّهُ الواجب الوجود لا يستحق العبادة غيره، فمن عبد غيره فقد أتى بظلم عظيم الْحَيُّ أي: الدائم بلا أول، الباقي بلا زوال الذي لا سبيل عليه للموت والفناء، الْقَيُّومُ أي: دائم القيام بتدبير خلقه في إيصال المنافع ودفع المضار، وجلب الأرزاق وأنواع الارتقاء، لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ السنة:
ما يتقدم النوم من الفتور، والنوم: حالة تعرض للإنسان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة، فتقف الحواس الظاهرة عن الإحساس رأساً.
وتقديم السنَة عليه، على ترتيب الوجود، كقوله تعالى: وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً، وجمع بينهما لأنه لو اقتصر على نفى السنّة عنه لتوهم أن النوم يغلبه لأنه أشد، ولو اقتصر على نفي النوم لتوهم أن السنة تلحقه لخفتها. والمراد تنزيهه تعالى عن آفات البشرية، وتأكيد كونه حيّاً قيوماً، فإن من أخذه نعاس أو نوم يكون مؤوف «1» الحياة، قاصراً في الحفظ والتدبير. ولذلك ترك العطف فيه وفي الجمل التي بعدَه لأنها كلها مقررة له، أي: للحيّ للقيّوم.
وقد ورد أنه اسم الله الأعظم، وقال عليه الصلاة والسلام لفاطمة- رضي الله عنها:«ما مَنَعك أن تَسْمَعي ما أُوصِيك به تَقُولين إذا أصْبَحْتِ وإذا أمْسَيتِ يا حيّ يا قيوم، برحمتِكَ أستغيث أصْلحْ لي شأني كُلَّه، ولا تَكلْني إلى نفْسِي طَرْفَةَ عَيْنِ» . رواه النسائي. وأخرج مسلم عن أبى موسى رضي الله عنه قال: «قَامَ فِينَا رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم بخَمْسِ كلماتٍ قال: إنَّ الله عز وجل لا ينامُ، ولا يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَنَام، يَخْفِضُ القِسطُ ويَرْفَعُهُ. يُرْفَعُ إلَيْهِ عَمَلُ اللَّيل قَبْلَ عَمَلَ النَّهَارِ وعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَملِ اللَّيلِ، حِجَابُهُ النُّورُ- وفي رواية. النَّارُ- لَوْ كَشَفَهُ لأحرقت سُبحات وجهه ما أدركه بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» .
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ هذا تقرير لقيوميته تعالى، واحتجاج على تفرده في الألوهية.
والمراد بما فيهما: ما هو أعمُّ من أجزائهما الداخلة فيهما ومن الأمور الخارجة عنهما، المتمكنة فيهما، من العقلاء وغيرهم، فهو أبلغ من (له السموات والأرض وما فيهن)، يعني: أن الله يملك جميع ذلك من غير شريك ولا منازع، وعبر ب- (ما) تغليبا للغالب.
(1) أف الطعام أوفا وآفة: فسد، والبلاد: أصابتها آفة من قحط أو مرض أو غيرهما.
مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ هذا بيان لكبرياء شأنه، وأنه لا يدانيه أحد ليقدر على تغيير ما يريده بشفاعة واستكانة، فضلاً عن أن يعاوقه عناداً أو مناصبة. والاستفهام إنكاري، أي: لا أحد يشفع عنده لمن أراد تعالى عقوبته، إلا بإذنه، وذلك أن المشركين زعموا أن الأصنام تشفع لهم، فأخبر تعالى أنه لا شفاعة عنده إلا بإذنه، يريد بذلك شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وبعض الأنبياء والأولياء والملائكة.
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي: ما قبلهم وما بعدهم، أو بالعكس، لأنك تستقبل المستقبل وتستدبر الماضي وقيل: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من الدنيا وَما خَلْفَهُمْ من الآخرة، وقيل: عكسه، لأنهم يقدمون ويُخَلِّفُون الدنيا وراءهم، وقيل: يعلم ما قدموه بين أيديهم من خير أو شر، وما خلفهم وما هم فاعلوه، أو عكسه.
والمراد أنه سبحانه أحاط بالأشياء كلها، فلا يخفى عليه شيء وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ أي: لا يحيطون بشيء من معلوماته تعالى إلا بما شاء أن يُطْلعهم عليه، وعطفه على ما قبله لأن مجموعه يدل على تفرده تعالى بالعلم الذاتي التام، الدال على وحدانيته تعالى في ذاته وصفاته.
وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ يقال: فلان يسَعُ الشيء سعة إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيامُ به. ويقال:
وسع الشيءُ الشيء إذا أحاط به وغمره حتى اضمحلّ في جانبه، وهذا المعنى هو اللائق هنا. وأصل الكرسي في اللغة: من تَركّب الشيء بعضه على بعض، ومنه الكراسة، لتركب أوراقها بعضها على بعض، وفي العرف: اسم لما يُقعد عليه، سُمِّي به لتركب خشباته. واختلف فيه فقيل: العرش، وقيل: غيره.
والصحيح أنه مخلوق عظيم أمام العرش، فوق السموات السبع دون العرش. يقال: إن السموات والأرض في جنب الكرسي كحلقة في فلاة. والكرسي في جانب العرش كحلقة في فلاة. وعن ابن عباس: (أن السموات في الكرسي كدراهم سبعة في تُرْسٍ) وقيل: كرسيه: علمه.
قال البيضاوي: هو تصوير لعظمته تعالى وتمثيل مجرد، كقوله وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ولا كرسي في الحقيقة ولا قاعد «1» . وقيل: كرسيه مجاز عن
(1) هذا الذي اختاره جم من الخلف، فرارا من توهم التجسيم، والحق: أن الكرسي ثابت كما نطقت به الأخبار الصحيحة. ومذهب سادتنا من السلف الصالح هو: جعل ذلك من الأمور التي لا يحيط المرء بها علما، مع تفويض العلم فيها إلى الله تعالى، مع اعتقاد التنزيه والتقديس له تعالى شأنه. وهذا هو الأسلم
.
علمه أو ملكه، مأخوذ من كرسي العلم والملك، وقيل: جسم بين يدي العرش محيط بالسماوات السبع لقوله- عليه الصلاة والسلام: «ما السموات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كحلقة في فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة» ولعله الفلك المشهور بفلك البروج. هـ. قلت: وقد اعترض السيوطي في حاشيته عليه «1» . فالله تعالى أعلم.
وَلا يَؤُدُهُ أي: لا يُثْقله ولَا يُشقُّ عليه حِفْظُهُما أي: حفظ السموات والأرض. وإنما لم يتعرض لذكر ما فيهما لأن حفظهما مُسْتَتْبع لحفظه، وَهُوَ الْعَلِيُّ أي: المتعالي عن الأشباه والأنداد، الْعَظِيمُ أي: عظيم الشأن، جليل القدر، الذي يستحقر كلُّ شيء دون عظمته.
وهذه الآية مشتملة على أمهات المسائل الإلهية، فإنها دالّة على أنه تعالى موجود واحد في الألوهية، متصف بالحياة الذاتية، واجب الوجود لذاته، موجد لغيره إذ القيوم هو القائم بنفسه المقيم لغيره، منزه عن التحيز والحلول، مُبرَّأ عن التغير والفتور، لا يناسب الأشباح، ولا يعتريه ما يعتري الأرواح، مالك الملك والملكوت، مبدع الأصول والفروع، ذو البطش الشديد، الذي لا يشفع عنده إلا من أذن له. عالم بالأشياء كلها: جليّها وخفيّها، كلّيّها وجِزْئيَّها.
واسع الملك والقدرة لكل ما يصح أن يملك ويقدر عليه، لا يشقُّ عليه شاقٌّ، ولا يشغله شأن عن شأن، مُتَعَالٍ عن تناول الأوهام، عظيمٌ لا تحيط به الأفهام، ولذلك تفردت عن أخواتها بفضائل رائعة وخواص فائقة، قال صلى الله عليه وسلم:
«أعظمُ آيةٍ في القرآنِ آية الكرسىّ» . وقال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الكُرْسيّ دُبر كل صلاة مكتوبة لم يَمْنَعْهُ من دُخُولِ الْجنَّة إلا الموتُ- وفي رواية- كانَ الذي يَتوَلَّى قَبْضَ رُوحِه ذُو الجَلَال والإكْرَام- ولا يُوَاظِبُ عليها إلا صِدِّيقٌ أو عَابدْ، ومن قَرَأها إذا أخَذ مَضْجَعَه أمن على نفْسِه وَجارِه وَجارِ جَارِه، والأبيات حوله» .
وقال عليه الصلاة والسلام: «ما قُرئت هذه الآيةُ في بيْت إلا هَجَرَتْهُ الشياطينُ ثلاثين يَوْماً، ولا يدْخُله ساحرُ ولا ساحرةٌ أربعين يوماً، يا عليّ علِّمْها ولدَك وأهلكَ وجيرانَك، فما نزلَتْ آيةٌ أعظمُ منها» . قاله البيضاوي وأبو السعود، وتكلم السيوطي في بعض هذه الأحاديث. والفضائل يعمل فيها بالضعيف. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يا أيها الذين آمنوا أيمان أهل الخصوصية- (أَنفِقُواْ مما رزقناكم) من سعة العلوم ومخازن الفهوم، من قبل أن يأتي يوم اللقاء، يوم تسقط فيه المعاملات وتغيب تلك الإشارات، لا ينفع فيه إلا الدخول من باب الكرم،
(1) في حاشيته على البيضاوي، والمسماة نواهد الأبكار وشوارد الأفكار.