الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم ذكر الحق تعالى قصة جالوت وملك داود عليه السلام، فقال:
[سورة البقرة (2) : الآيات 250 الى 252]
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
يقول الحق جل جلاله: ولما برز طالوت بمَن معه لِجالُوتَ، أي: ظهر في البرَاز، ودنا بعضهم من بعض، تضرعوا إلى الله واستنصروه، وقالوا: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أي: أصْبُبْه علينا صبّاً، وَثَبِّتْ أَقْدامَنا عند اللقاء لئلا نَفِرّ، وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. وفي دعائهم ترتيب بليغ سألوا أولاً إفراغ الصبر في قلوبهم الذي هو ملاك الأمر، ثم ثبات القدمِ في مَدَاحِضِ الحرب المُسببِ عنه، ثم النصرَ على العدو المرتب عليها غالباً.
فهزم الله عدوَّهم وأجاب دعاءهم بإذنه وقدرته، وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ. وقصة قتله: أن أصحاب طالوت كان فيهم بنو إيش، وهو أبو داود عليه السلام ستة أو سبعة، وكان داود صغيراً يرعى غنماً، فلما حضرت الحرب قال فى نفسه: لأذهبن لرؤية هذه الحرب، فمرَّ في طريقه، بحجر فناداه: يا داود خُذْني، فبي تقتل جالوت، ثم ناداه حجر آخر ثم آخر فأخذها، وجعلها في مخلاته وسار، فلما حضر البأس خرج جالوت يطلب البراز، وكاع «1» الناس عنه، أي: تأخروا خوفاً، حتى قال طالوت: من يبرز له ويقتله فأنا أزوجه ابنتي، وأُحَكِّمُهُ في مالي، فجاء داود، فقال له طالوت: اركب فرسي وخذ سلاحي، ففعل، وخرج في أحسن شكله، فلما مشى قليلاً رجع، فقال الناس: جَبُنَ الفتى، فقال داود: إن الله سبحانه لم يقتله ولم يُعنى عليه، لم ينفعني هذا الفرس ولا هذا السلاح، ولكني أحب أن أقاتله
(1) كاع فلان: جبن وضعف.
على عادتي. وكان داود من أرمى الناس بالمقلاع، فنزل، وأخذ مخلاته فتقلدها، وأخذ مقلاعه فخرج إلى جالوت، وهو شاكٍ «1» في السلاح، فقال جالوت: أنت يا فتى تخرج إليّ! قال، نعم، قال: هكذا كما تخرج إلى الكلب! قال:
نعم، وأنت أهون، قال: لأطعمن لحمك اليوم الطير والسباع، ثم تدانيا فأدار داود فأخذ مقلاعه وأدخل يده إلى الحجارة، فروى أنها التأمت، وصارت حجراً واحداً، فأخذه ووضعه في المقلاع، وسَمَّى الله، وأداره، ورماه، فأصاب رأس جالوت فقتله، وجزّ رأسه، وجعله في مخلاته، واختلط الناس، وحمل أصحابُ طالوت فكانت الهزيمة.
ثم إن داود جاء يطلب شرطه من طالوت، فقال: حتى تقتل مائتين من هؤلاء الجراجمة «2» الذين يؤذون الناس وتجيئني بسلبهم، فقتل داود منهم مائتين، وجاء بذلك، فدفع إليه امرأته وتخلّى له عن الملك «3» . ولما تمكن داود- عليه السلام من الملك، أجلى من بقي من قوم جالوت إلى المغرب، فمن بقيتهم البرابرة من الشلوح وسائر الأرياف.
فآتي اللهُ داود الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وهي النبوة، وقيل: صنعة الدروع ومنطق الطير وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ من أنواع العلوم والمعارف والأسرار، وقد دفع الله بأس الكافرين ورد كيدهم في نحرهم، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ أي: لولا أنَّ الله يدفع بعض الناس ببعض، فينصر المسلمين على الكافرين، ويكف فسادهم، لغلبوا وأفسدوا في الأرض. أو: لولا أن الله نصب السلطان، وأقام الحكام لينصفوا المظلوم من الظالم، ويردوا القوي عن الضعيف، لتواثب الخلق بعضهم على بعض، وأكل القوي الضعيفَ فيفسد النظام. أو: لولا أن الله يدفع بالشهود عن الناس في حفظ الأموال والنفوس والدماء والأعراض، لوقع الفساد في الأرض.
أو: لولا أن الله يدفع بأهل الطاعة والإحسان عن أهل الغفلة والعصيان، لفسدت الأرض بشؤم أهل العصيان.
وفى الخبر عنه صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله يَدْفَعُ بالمُصلِّي مِنْ أمَّتِي عَمَّنْ لا يصلى، وبمن يُزكيَّ عَمَّنْ لَا يُزَكِّي، وبمن يصوم،
(1) يقال: رجل شاكى السلاح: تام التسلح. [.....]
(2)
الجراجمة: قوم من العجم بالجزيرة. ويقال: الجراجمة نبط الشام.
(3)
هذا القصص كله لين الأسانيد- كما قال ابن عطية. وقال الدكتور أبو شهبة: نحن فى غنية عن هذا القصص بما فى أيدينا من القرآن والسنة، ولسنا فى حاجة إلى شيء من هذا فى فهم القرآن وتدبره. انظر الإسرائيليات والموضوعات للدكتور أبى شهبة- رحمه الله.
عَمَّنْ لَا يَصُوم، وبمَنْ يَحُجُّ، عَمَّنْ لَا يَحُجُّ، وبَمَّنْ يُجاهِدُ عَمَّنْ لَا يُجَاهِدُ. وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى تَرْكِ هذِهِ الأشْياءِ ما أنْظَرَهُمُ الله طَرْفة عَيْنٍ» .
وفي حديث آخر: «لولا عباد لله رُكَّع، وصبية رُضَّع، لصبَّ عَليكُمُ العَذَابُ صَبًّا» . ورَوى جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليُصْلِحُ بصلاح الرجل- ولده وولد ولدهِ، وأهل دُوَيْرَتِه، ودويراتٍ حوله، ولا يزالون في حفظ الله مادام فيهم» . هـ. فهذا من فضل الله على عباده يصلح طالحهم بصالحهم، ويُشَفع خيارُهُم في شرارهم، ولولا ذلك لعوجلوا بالهلاك، وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ.
تِلْكَ يا محمد، آياتُ اللَّهِ والإشارة إلى ما قصَّ من حديث الألوف، وتمليك طالوت، وإتيان التابوت، وانهزام الجبابرة أصحاب جالوت، نَتْلُوها أي: نقصها عليكم بِالْحَقِّ أي: بالوجه المطابق الذي لا يَشُك فيه أهل الكتاب وأرباب التواريخ، وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ حيث أخبرتَ بها من غير تعرف ولا استماع ولم يعهد منك تعلم ولا اطلاع، فلا يشك أنه مِنْ عند الخبير العليم، إلا من طَبع اللهُ على قلبه. نعوذ بالله من ذلك.
الإشارة: «من علامة النجح في النهايات الرجوع إلى الله في البدايات» ، فإذا برز المريد لجهاد أعدائه من النفس وَالهوى والشيطان وسائر القُطاع، واستنصر بالله وتبرأ من حوله وقوته، كان ذلك علامة على نصره وظفره بنفسه، وكان سبباً في نجح نهايته، فيملكه بالله الوجود بأسره، ويفتح عليه من خزائن حكمته. قال أبو سليمان الداراني:(إذا اعتادت النفوس على ترك الآثام، جالت في الملكوت ثم عادت إلى صاحبها بطرائف الحكم من غير أن يؤدي إليها عالم علماً) . وفي الخبر: «من عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللهُ علمَ مَا لم يعلمْ» . وكان حينئذٍ رحمة للعباد، يدفع الله بوجوده العذاب عمن يستحقه من عباده.
وفي الحديث القدسي: «يقول الله عز وجل: إذا كان الغالبَ على عبدي الاشتغالُ بي جعلتُ همته ولذَّته في ذكري، ورفعتُ الحجابُ فيما بيني وبينه، لا يسهو إذا سَهَا الناسُ، أولئك كَلَامُهُم كلام الأنبياءِ، أولئك الأبطالُ حقًا، أولئك الذين إذا أردتُ بأهلِ الأرضِ عقوبةً أو عذابًا ذكرتُهم فصرفتُه بهم عنهم» . حقَّقنا الله بمحبتهم وجعلنا منهم.. آمين.