الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القهر والإجبار، فالواجب عليك أيها العبد أن تكون لك عينان: عين تنظر لحكمتي وشريعتي فتتأدب، وعينٌ تنظر لقدرتي وحقيقتي فتُسلم، وتكون بين الأمن والرّهْب، فلا تأمَنْ مَكْرِي وإن أمَّنتُك، ولا تيأس من حلمي وإن أبعدتك، فعلمي لا يحيط به محيط، إلا من هو بكل شيء محيط.
الإشارة: إن الذين أنكروا وجود الخصوصية، وجحدوا أهل مشاهدة الربوبية من أهل التربية النبوية، لا ينفع فيهم الوعظ والتذكير، بما سبق لهم في علم الملك القدير، فسواء عليهم أأنذرتهم وبال القطيعة والحجاب، أم لم تنذرهم لعدم فتح الباب، قد ختم الله على قلوبهم بالعوائد والشهوات، أو حلاوة الزهد والطاعات، أو تحرير المسائل والمشكلات، وعلى سمع قلوبهم بالخواطر والغفلات، وجعل على أبصارهم غشاوة الحجاب، فلا يبصرون إلا المحسوسات، غائبون عن أسرار المعاني وأنوار التجليات، بخلاف قلوب العارفين، فإنها ترى من أسرار المعاني مالا يُرى للناظرين، وفي ذلك يقول الشاعر:
قلوبُ العَارفِينَ لَهَا عُيُونٌ
…
ترى مالا يُرى للناظرينا
وألسنةٌ بأسْرارٍ تُنَاجِي
…
تغيبُ عَنَ الكِرَام الكَاتِبِينَا
وأجنحةٌ تَطِيرُ بِغَيْرِ ريشٍ
…
إلَى ملكُوتٍ ربِّ العَالَمِينَا «1»
فسبحان من حجب العالمين بصلاحهم عن مصلحهم، وحجب العلماء يعلمهم عن معلومهم، واختصّ قوماً بنفوذ عزائمهم إلى مشاهدة ذات محبوبهم، فهم في رياض ملكوته يتنزهون، وفي بحار جبروته يسبحون، لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ.
ولمَّا ذكر الحق- جل جلاله من أعلن بالإنكار، ذكر من أسَرَّ بالجحود وأظهر الإقرار، فقال جل وعلا:
[سورة البقرة (2) : الآيات 8 الى 10]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَاّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10)
قلت: (من) موصوفة مبتدأ، والخبر مقدم، أي: ومن الناس ناس يقولون كذا، والمخادعة: إظهار خلاف ما يخفي من المكروه، وأصل الخدع: الإخفاء، ومنه المخدع للبيت الذي يخبأ فيه المتاع. وقيل: الفساد لأن المنافقين
(1) تنسب هذه الأبيات للحلاج، كما تنسب لميمونة السوداء فى قصة مع إبراهيم بن أدهم.. راجع كتاب عقلاء المجانين.
يفسدون إيمانهم بما يُخْفُون، وجملة (وما يشعرون) حالية، أي: غير شاعرين، والشعور: التفطن، وفعله من باب كَرُمَ ونَصَرَ. وليت شعري: أي: ليت فطنتي تدرك هذا، وجملة (في قلوبهم مرض) تعليلية للمخادعة، والمرض:
الضعف والفتور، وهو هنا مرض القلوب بالشك والنفاق. والعياذ بالله.
يقول الحق جل جلاله: وَمِنَ النَّاسِ منهم مغموص عليهم بالنفاق كبعض اليهود والمنافقين، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، يقولون: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وما هُم في عداد المؤمنين، يُخادِعُونَ بزعمهم اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا بما يُظهرون من الإيمان، وَما يَخْدَعُونَ في الحقيقة إِلَّا أَنْفُسَهُمْ لأن وبال خداعهم راجع إليهم، وَما يَشْعُرُونَ أن خداعهم وبال عليهم، وإنما حصلت لهم هذه المخادعة لأن فِي قُلُوبِهِمْ مرضاً من الشك والحسد، فقلوبهم مذبذبة، وأنفسهم مغمومة، فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً على مرضهم بما ينزل عليهم من الآيات التي تفضحهم، وَلَهُمْ في الآخرة- إذا قدموا على الله- عَذابٌ موجع بسبب تكذيبهم رسول الله أو كذبهم على الله. هذا مُضَمَّنُ الآية.
افتتح الحق- جل جلاله بذكر الذين أخلصوا دينهم لله وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم، ثم ثنى بالكافرين الذين محضوا الكفر ظاهراً وباطناً، ثم ثلث بالمنافقين الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وهم أخبث الكفرة لأنهم خلطوا بالكفر استهزاء وخداعاً، ولذلك كانوا في الدرك الأسفل من النار.
الإشارة: ومن الناس مَن يترامى بالدعوى على الخصوصية، ويدعي تحقيق مشاهدة الربوبية، وهو في الدرك الأسفل من العمومية، يظهر خلوص الإيمان وتحقيق العرفان، وهو في أودية الشكوك والخواطر حيران، وفي فيافي القطيعة والفَرْقِ ظمآن، لسانه منطلق بالدعوى، وقلبه خارب من الهدي، يخادع الله بالرضا عن عيوبه ومساوئه، ويخادع المسلمين بتزيين ظاهره، وباطنه معمور بحظوظه ومهاويه، يتزيه بِزِيِّ العارفين ويتعامل معاملة الجاهلين، ويصدق عليه قول القائل:
أمَّا الخِيَامُ فَإنَّها كخِيَامهمْ
…
وأَرَى نِسَاءَ الحيِّ غَيْرَ نِسَائِهَا «1»
وما يخادع في الحقيقة إلا نفسه، حيث حرمها الوصول، وتركها في أودية الأكوان تجول، قلبه بمرض الفرق والقطيعة سقيم، وهو يظن أنه في عداد مَن يأتي الله بقلب سليم، فزاده الله مرضاً على مرضه حيث رضي بسقمه وعيبه، وله عذاب الحرص والتعب في ضيق الحجاب والنصب بسبب كذبه على الله، وإنكاره على أولياء الله، فجزاؤه البعد والخذلان، وسوء العاقبة والحرمان، عائذاً بالله من المكر والطغيان.
(1) البيت نسبه القرطبي فى تفسيره لأبى بكر الشبلي، فى قصة. وجاء فى ديوان الشبلي: قسم أشعار تمثل بها الشبلي.